محمد يحي الوَلاَتي.. عالم الصحراء.. وعمدة العلماء

عالم الصحراء، وعمدة العلماء، الشيخ الفقيه الأصولي الصوفي الأديب البارع المتفنن، أبو عبد الله محمد يحيى بن محمد المختار ابن الطالب عبد الله الداودي، الولاتي، المالكي، الأشعري، التيجاني، الذي لا تذكر ولاتة إلا وذكر، ولا يذكر إلا وذكرت؛ كان طالبا مثابرا، وشيخا مميزا، وقاضيا عدلا.

ولد الشيخ الولاَتي سنة (1259هـ)، وقيل سنة (1260هـ) في مدينة ولاَته في الجهة الشرقية من المنتبذ القصي.
نشأ يتيماً فقد توفي والده هو صبي، وتولى كل من أخواله وأمه (لعزيزة بنت الحاج) رعايته والاعتناء به، فنشأ نشأته الأولى في وسط علمي أهله لطلب العلم والحرص على لقاء الشيوخ ومجالستهم.

وكان رحمه الله تعالى جادا مجتهدا في طلب العلم حيث بدت عليه علامات علو الهمة والحرص على عدم تضييع الوقت، والدأب على التحصيل والأخذ عن مشايخ بلده من أمثال: الشيخ الوسري الذي علمه القرآن الكريم، والشيخ أحمد بن محمد بوكفتة المحجوبي، والشيخ محمد بن سيدي عثمان العلوشي … وآخرين.

وكانت رحلته إلى البلاد المقدسة لأداء فريضة الحج سنة (1311هـ) رحلة علمية ذات فائدة كبيرة، مرَّ خلالها في ذهابه وإيابه بالمغرب وتونس ومصر.

ففي المغرب استفاد منه بعض العلماء كالشيخ أبي العباس ابن المامون البلغيثي الفاسي (ت1348هـ) في علمي البيان والأصول.
ووصل تونس عام 1314هـ والتقى بعلمائها وأعيانها، وأقام فترة يدرّس بتألق في زاوية سيدي إبراهيم الرياحي التجانية.
وبمصر جالس بعض علماء الإسكندرية كالشيخ أبي السعود حسن شحاتة الشافعي، وبتونس اجتمع بالشيخ سالم بن عمر بو حاجب (ت1342هـ).

وقد عُرف عن الشيخ الولاتي قوة نباهته ونبوغه المبكر وهذا ظاهر من إقبال المشايخ على الأخذ عنه وهو في مرحلة الطلب.
بدأ الشيخ مسيرته التأليفية في مقتبل عمره؛ حيث نظم معاني الحروف من “مغني اللبيب” وهو لما يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وفي سن الثامنة عشرة كان قد شرح ألفية السيوطي في البيان، كما شرح وهو في الخامسة والعشرين “مراقي السعود”، وناهيك بمن برّز في المتمات وهو ما يزال في تلك المرحلة من العمر.

تولى عدة مهام منها: عقده حلقات التدريس وإفادة الطلاب من علمه الغزير.
أخذ عنه جماعة، منهم: محمد بن أحمد الصغير، ومحمد بن امباله، ومحمد المختار بن امباله، والمرواني ابن احماد، وآخرون غيرهم كأبنائه، وكالذين ذكر في رحلته من المشارقة.
وإلى جانب مهمة التدريس تولى رحمه الله منصب القضاء والإفتاء ببلده، زد على ذلك اشتغاله في طور من حياته بتعاطي التجارة.
كما كان له رحمه الله أثر في الإصلاح المجتمعي حيث عمل على مواجهة كل أشكال الانحرافات السائدة في محيطه الاجتماعي، هذا كله جعل الشيخ الولاتي يحتل مكانة متميزة بين معاصريه، فقد قال عنه تلميذه الشيخ أبو العباس ابن المأمون البلغيثي الفاسي: «هو العلامة الهمام المهتم بتحرير العلوم أي اهتمام، الحافظ الحجة السالك في اقتفاء السنة أوضح محجة …».
أما علاقة العلامة محمد يحي الولاتي بمدينة تيشيت فقد تناولها د. حماه الله بن ميابي (جامعة نواكشوط ) في عرض تحت عنوان :” محمد يحي الولاتي في مدينة تيشيت: حضوره وتراثه”، وقال في مستهل عرضه إن محمد يحي الولاتي “يعتبر من أبرز فقهاء منطقته في عصره بما اتسم به من حضور قوي ومؤثر في مناحي الحياة المختلفة” وقال “إن علاقة الولاتي بتيشيت قد تقوت أكثر بفعل القرب الجغرافي بين المدينتين والتبادل التجاري النشط بينهما ثم بفعل العلاقة الصوفية التجانية الخاصة بين الفقيه محمد يحي وتيشيت الحاضرة التجانية حينها بامتياز بتلك الجهة” .وتحدث عن تلك العلاقة من خلال الرحلة الحجازية والفتاوى والمؤلفات وقدم جدولا بمؤلفات الفقيه الموجودة في تيشيت.
ومما يؤكد سعة مجال الفقيه الولاتي في دراسته وتكوينه كثرة وتنوع تآليفه التي تناهز المائة، نذكر منها:
فتح الودود شرح مراقي السعود في الأصول
والرحلة الحجازية
ونور الحق الصبيح في شرح الجامع الصحيح
وشرح اختصار ابن أبي جمرة
وتأليف في مصطلح الحديث
وإيصال السالك في أصول الإمام مالك
بيع المعاملات بالتفاضل
والأجوبة المهمة عن الوقائع الملمة
ومنبع العلم والتقى وشرحه في فروع الفقه و أدلتها من الكتاب والسنة والدليل الماهر الناصح شرح نظم المجاز الواضح على قواعد المذهب الراجح
ونيل السول على مرتقى الوصول
واختصار الموافقات للشاطبي
وغير ذلك من المصنفات في الفقه والأصول واللغة.

شد رحله للحج سابع رجب من العام 1311هـ، يقول العلامة المختار بن امبَالَّهْ:
لئن غاب عن ولاته يحيى فإنها :: تغيَّب عنها نورها وشبابها
وغيب عنها نحوها وبيانها :: وغيب عنها فقهها وصوابها

وفي رحلته الحجازية، خرج الشيخ محمد يحيى من ولاتة قاصدا الحج لسبع ليال خلون من رجب الفرد من العام الحادي عشر بعد ثلاثمائة وألف [1311ه – 1894م]، ولم يرجع إلا بعد ست سنوات وثلاثة أشهر؛ حيث ألقى عصا التسيار بأروان لستة من شوال من العام السابع عشر بعد ثلاثمائة وألف [1317هـ – 1900م].
ست سنوات وثلاثة أشهر قطع فيها الشيخ مسافات طويلة، وتعرف فيها على ثقافات مختلفة، ودخل خلالها نقاشات علمية (تستحق تلك اللقاءات العلمية التي أشار لها الولاتي في رحلته دراسة مستقلة، تسبر أغوارها؛ فتميط اللثام عنها، مجلية قيمتها العلمية)، كالتي دخل مع مفتي أهل إيليغ محمد بن العربي الأدوزي وغيره، كما درّس فيها، وتلقى الإجازات وأجاز، وألف المؤلفات وشرحها، وزار الأماكن المقدسة، واقتنى الكتب النفيسة، وتعرف على السلاطين.
لقد سجل محمد يحيى أحداث رحلته ومراحلها تسجيلا دقيقا؛ فتوقف عند ذكر الطرق والمنازل، وذكر بالاسم أغلب من لاقى من السلاطين والعلماء وما قدموا له من هدايا، كما استطرد خلالها بعض أشعاره، وضمنها فتاواه وردوده، واستفاض في الوصف الدقيق لمعالم الحرم الشريف حين كان يؤدي مناسكه، الأمر الذي جعل الدكتور محمد حجي محقق الرحلة ينبه إلى أن القسم المتعلق منها بالحرمين الشريفين هو أهم محتوياتها؛ بل يقترح أن “يطبع على حدة كدليل للحج السني”.
هذا وقد صدرت الطبعة الأولى للجزء الأول من هذه الرحلة عام 1990م، بالاشتراك بين معهد الدراسات الإفريقية بالرباط ودار الغرب الإسلامي، تولى التعليق عليها الدكتور محمد حجي، وقد قام بتقسيمها إلى:
– القسم الأول (15 – 73): بدء الرحلة من ولاتة في 7 رجب 1311ه- (14 يناير1894م).
– القسم الثاني (75 – 100): الخروج إلى شنقيط فاگليميم.
– القسم الثالث (101 – 164): الرحيل إلى تزروالت فالصويرة ثم الرباط.
– القسم الرابع (165 – 210): إبحار المؤلف إلى الحجاز، ومكثه في البقاع المقدسة ستة أشهر.
– القسم الخامس (211 – 270): ذهاب المؤلف إلى مصر.
– القسم السادس (271 – 312): وصول المؤلف إلى تونس، وإقامته بها ثمانين ليلة.
– القسم السابع (313 – 403): عودة المؤلف إلى المغرب.

وهكذا كان الفقيه الولاتي قائماً بحق العلم والتعليم والإفتاء والتأليف إلى أن ألَمَّ به مرض ألزمه الفراش حتى وافاه الأجل.

توفي محمد يحيى عام 1330هـ – 1912م عن عمر ناهز 71 عاما، كانت كلها مليئة بالعطاء العلمي المميز، الذي شهد له به القاصي والداني، يقول تلميذه الفقيه سيداتي مشيرا لتاريخ وفاته في مرثيته له، ومتحدثا عن مبلغه من العلم:

فـ”بشرك حق” كان تاريخ موته :: تأمل تجد سرا هناك مجذرا
بكى الفقه والأصلان والنحو فقده :: وتفسير آي والحديث وما جرى
وما للبيان من بيان وراءه :: وعلم المعاني معْه معناه أقبرا
أطالبَها ألق العصا والزم الأسى :: فإن الذي تبغيه غيّب في الثرى
“حلولو” و”سعد الدين” يركب لجة :: من البحر ذاك العلم فيها تحيرا
ولو أن تاج الدين أبصر نوره :: لصيره تاجا على الرأس مزهرا
وأنى لفخر الدين فخر كفخره؟ :: ومن رام إمساك الثريا تعذرا
كطفل لقبض البدر قد مد راحة :: “وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا”
وأسنى صلاة الله ثم سلامه :: على المصطفى سر الوجود لمن درى

دفن – رحمه الله تعالى – بمقبرة ولاتة، ونقش على قبره:
هذا ضريح من به :: علم الشريعة انتشر
ألف في حياته :: مائة سفر وعشر

تغمده الله بواسع رحمته.

كامل الود

زر الذهاب إلى الأعلى