للوطن والتاريخ.. (حول انتصار الباطل)/ محمد الامين سيدي مولود_نائب برلماني
“يَا أيُّها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ وكونوا معَ الصادقين” (التوبة)
وهناك دَيْن للبلادِ قضاؤه / حتمٌ عليّ، وقد أعيش فيقتضى! (الجواهري)
لا أخفيكم أعزّائي القرّاء الكرام أنني ترددتُ كثيرا منذ أمس في الكتابة حول بيان النيابة بخصوص المرحوم جوب عمار، وذلك لأسباب منها أنني قلت رأيي في الحادثة عن بينة ومعلومات مؤكدة في وقته _ وأتشبث بما قلتُ وهو قناعتي إلى الآن _ ومنها قوة موجة الإساءة والبذاءة التي تجتاح هذا الفضاء وقد نلتُ وصديقي النائب العيد حظا وافرا من ذلك بسبب المطالبة الصريحة بأهمية التحقيق في مقتل جوب عمار، وقد كان مصدر أغلب ذلك من مشتقات الإدارة العامة للأمن ولو سَفُلتْ (على قول أهل الفرائض). كما نال آخرون قسطا أكبر، بعضهم اكتسب مناعة وصبرا لكثرة ما استبيح عِرضُه (الأستاذ أحمدو الوديعة). ومنها أن الاستنصار للمظلوم وقت الشدة واجب، أما استغلاله وقت الرخاء فيترك لطالبي “الرخاء”. ومن هذه الأسباب أنني لا أريد تحويل نقاش عام حول الأخطاء الكبيرة للأجهزة الأمنية وواقعها السيء جدا إلى جدل شخصي يقتل الهدف الأسمى، مثلما تقتلُ الفوضى المطالبةَ بالحقوق!
غير أن تساؤلات كثيرة طُرِحت، وأناس محترمون استفسروا بل واحتاروا، وتُوّج ذلك بمقال “هجائي تخويني” لصديقي الأستاذ محمد عبد الله ولد لحبيب (ديدي) المدير السابق للمكتب الإعلامي لرئيس الجمهورية ورئيس سلطة الإشهار حاليا. ورغم تفهمي لدوافع الحفاظ على المناصب لدى كثيرين، فقد كنتُ أظن في ديدي بقية نضال ومبدئية تصونه عن موقف كهذا، لذلك أستسمح للملاحظات التالية:
1_ لا أستخدم القياس في حوادث صدر الإسلام ولا النصوص الواردة في صراع الإسلام ضد الكفر في النزال السياسي اللحظي بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد، مهما كان الاختلاف أو الخلاف، إذ لا وجه للقياس، والفارق أكبر من المقام. لكني أبدأ بإشارة في حديث الثلاثة الذين خلفوا رضي الله عنهم إثر غزاة تبوك، وذلك بالتذكير أنهم كانوا ضمن أكثر من ثمانين متخلفا وقد نجى ثلاثتهم بالصدق، حيث لم يكذبوا ولم يدعوا أعذارا باطلة عكس أغلبية المتخلفين، وهذه سمة الصدق وقت الشدة ولو قلّ قائله. الصدق منجاة!
2_ أستغرب خشونة لغة كاتب كبير يملك نواصي اللغة، وله باع طويل في الأدب، ومسؤول رفيع في نظام يرفع “المسحة الأخلاقية” شعارا، إذ كنت أظن أنه حتى ولو فشل هذا النظام في ضبط الأخلاق العامة للمسؤولين تجاه المال العام وقضايا الفساد، وعجز عن حملهم على الإنتاجية الإدارية والانشغال بالواجب الوظيفي، فإن ناعم الكلم لن يعوزه، ولذلك ما كنت أتوقع أن تكون عبارات مثل: الخفة، النزق، غاية القباحة، غاية السوء، سوء نية وطوية، وضاعة، خبث نية الخ تصدر من ديدي في مقال خصصه لثلاثة أصدقاء ما نهبوا ولا قتلوا ولا نافقوا ولا كذبوا ولا تملقوا، بل وقفوا مع أسرة مكلومة، ضد ظلم جهاز أمني تكررت أخطاؤه إلى درجة أصبحت خطرا يكاد يشعل البلد.
3 _ بخصوص بيان النيابة لا أعتبره نهاية اللغط، ولا حقيقة مطلقة، بل هو جولة إضافية تلحق برصيد كبير من بيانات الأنظمة المتعاقبة سواء جاءت على لسان النيابة أو الداخلية أو الإعلام الرسمي في البلد خلال أكثر من ثلاثة عقود خلت، فهل تتذكرون البيانات المتعلقة بالتخريب وزعزعة الأمن والخيانة العظمى الخ من الجرائم التي كانت هذه البيانات تصف بها زعماء المعارضة مثل أحمد ولد داداه ومحمد ولد مولود ومسعود ولد بلخير الخ؟ وماذا عن البيانات التي وصفت الشيخ الددو بالارهابي وبررت اعتقاله وجماعة من الدعاة والعلماء والقضاة؟ هل كان كل ذلك صادقا _ بالنسبة لديدي _ فيجزم بصدق كل ما يصدر عن الأنظمة (نيابة وشرطة وإعلاما رسميا) من بيانات؟ أم كانت كاذبة لكن الأغلبية الساحقة سكتت عنها بل أيدتها في وقتها تماهيا مع ميزان القوة، أو خوفا على مصالح معينة، أو اجتهادا سنده النجاة بالجلد بدل مقارعة الباطل؟ فقد:
خلقَ الله للحروب رجالا / ورجالا لقصعة من ثريدِ
4 _ بخصوص الفوضى والتخريب وأعمال الشغب، هل المسؤول عنهم جهاز الأمن الذي اقتاد مواطنا قبل منتصف الليل ثم سلمه لذويه ميتا بعد الرابعة فجرا، أي بعد أربع ساعات من اعتقاله في المفوضية وليس المستشفى، ثم باشر القمع غدا عند باب المستشفى، وهو نفس الجهاز الذي قتل قبل فترة قليلة الصوفي ولد الشين، وأصدر بيانا كاذبا كذبا بواحا أنه مات إثر وعكة صحية؟ كما أنه هو الجهاز المسؤول عن أمن المواطنين وممتلكاتهم والعاجز عن توفير ذلك؟ أم كانت هذه الفوضى بسبب المطالبة بالتحقيق وعقاب الجناة؟ هل طالب أي شخص من الثلاثة أو أي سياسي غيرهم بالتظاهر السلمي أحرى بالتخريب؟ هل يُصدّقُ رئيس سلطة الإشهار وزيرَ الداخلية حين قال إن أغلب المتظاهرين مراهقين قصّر أم يكذبه؟ إنْ صدّقَه فهل يظن أن أي سياسي يستند في أجندته على مراهقين قصر يرشقون الناس بالحجارة ويخربون المحلات؟ وإن كذبه _ ولا إخال رئيس سلطة الإشهار مكذّبًا وزير الداخلية _ فمن هم المتظاهرون المخربون إذن؟ ثم هل سيفرق المخربون بين سيارات العيد والعبد الفقير ومن على شاكلتهما وبين بقية المواطنين؟ هل سيقول مخرب ناهب أو معتد آثم: هؤلاء أطفال العيد أو ولد سيدي مولود تجنبوهم؟ ثم ألم يدّع النظام أن هنالك أجانب استغلوا الواقع وخربوا؟ وهل يوجد سياسي يتكيء في مساره على أجانب فوضوين إن كانوا هناك؟ ومن المسؤول عن تهريب الأجانب هل هو فساد وارتشاء بعض عناصر الأمن والفشل الإداري وضعف أجهزة الدولة وترهلها أم أنا والعيد ووديعة؟ من المسؤول عن ضبط الهجرة ومراقبة سلوك الأجانب؟!
5 _ بخصوص أسرة المرحوم فقد أصدروا بيانا يوم الجمعة رغم حصار إعلامي قوي، قالوا فيه بحزن واستكانة لواقع أقوى مني ومنهم إلى الآن: “لقد كانت استنتاجات تقرير التشريح وما تضمنته صادمة للعائلة ولم يبق أمامنا إلا إجراء خبرة مضادة غير متاحة لنا”. وقد حضر بعض من غمز فيهم رئيس سلطة الإشهار جنازةَ المرحوم وقدموا العزاء. مع أني أظن أن حضور الفاجعة والمواساة لحظة الصدمة ووقت الظلم أهمّ وأصعب من المجيء وقت الرخاء والانشراح بانتصار القوة على الحق. هذا ولم تكن عائلة المرحوم جوب عمار أول عائلة يقهرها الواقع الحالي، ويمكن إعادة التساؤل حول مصير التحقيق في حوادث مماثلة منها المشظوفي ولامين وولد نافع مثلا لا حصرا، بل حتى الصوفي ولد الشين الذي لم يرقأ دمه بعد لم يتقدم ملفه بما يناسب الجرم المعترف به. إن قوة “الدولة” ونفوذ المجتمع وضعف النخبة وتواطيء بعض المسؤولين المبررين وكثير من الأقلام المأجورة والمجندين الأمنين ضيعوا حقوق كثيرين قتلا واغتصابا وظلما.. وسيضيعون أكثر ما لم تتزن الكفة ويزداد الوعي الحق والاستقلالية في الضمير ومصدر العيش!
6 _ إن مبدأ الفوضى الخلاقة معروف ومألوف، وسؤاله المنهجي هو مَن المستفيد من الفوضى هنا؟ هل هو من يطالب بالتحقيق الجدي الشفاف والضحايا وذووهم؟ أم الجهات محل التهمة (الشرطة إدارة وعناصر) والنظام المتواطئ معها والمغطي على أخطائها، والذي لم يستطع إداريا محاسبة أي مسؤول، رغم أن هنالك أخطاء إدارية ومهنية تقتضي العقوبة بعيدا عن المساطر الجنائية وما يوكل للقضاء (حالة ولد الشين)؟ إن المستفيد الأول من الفوضى هو بعض الجهات الأمنية حيث انشغل الناس بمشكل الأمن، وأضحت عرضة للنهب والتخريب وسقط المزيد من الضحايا، فأصبح الجميع يطارد النتائج ويريد السلامة، وينسى الأسباب التي كانت هي الشرارة والتي قد تعود أي لحظة، وهذا منطق الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة، إذ تعالج كل مصيبة بمصيبة أكبر منها تنسي الناسَ سابقتَها. إنها مرحلة من انتصار الباطل، وللباطل صولات!
7 _ إن من لا يملك شجاعة التطرق لفساد الأجهزة الأمنية هنا، ولم يخطّ يراعه حرفا _ “منذُ تالي” _ بخصوص ما حصل فيها من ظلم شملَ المسابقات والاكتتاب (دفعة الجزائر)، ومسابقة المفتشين قبل أكثر من سنتين التي ظلم فيها بعضُ ضباطِ الشرطة أنفسهم، ومشاكل التحويلات والتعيينات والامتيازات، والظروف المادية لعناصر الأمن رغم تضاعف الميزانيات، وضعف التكوين وانتشار الرشوة والمحسوبية والزبونية، وضعف التجهيز وحتى القيافة ونظافة المفوضيات والانضباط الخ، ومشاكل الصفقات ونمط التوريد، والقمع الذي لم ينجُ الطلاب والمعلمون والأساتذة، وتورط بعض القادة الأمنيين في السياسة رغم أنف القانون، وانشغال البعض الآخر بالمال والبذخ وأشياء أخرى، من لا يستطيع نقد أي من ذلك بل يباركه، لا يستطيع تقديم دروس جدية في الوطنية، ولا يُقبل تباكيه على انفلات الأمن فللأمن مقتضيات وأسباب. بل إن حدّته _ حتى لا أقول إساءته _ متوقعة في ضوء واقع سياسي وسلطوي يستدعي الحفاظ فيه على المناصب الكثير من الإنحناء.
8 _ قال رئيس سلطة الإشهار إنه يستطيع أن يحلف “إنه لا أحد من أبناء هذا الوطن يرتدي بزة عسكرية، أو لباسا مدنيا من أي نوع يخرج من بيته صباحا، وهو يستحضر أنه سيعود وقد خدش سيارة أحد مواطني هذا البلد، أو أساء إليه بلفظ، أما أن يكون قد باء بدمه فتلك بعيدة بعيدة..” وفي هذا اليمين المفترض ثلاث ملاحظات: أولاها التذكير بيمين رئيس السلطة حين استلام مهام مؤسسة ضبطية تحكيمية يفترض فيها البعد عن التجاذب السياسي ولو ورَعا بحكم طبيعة المؤسسة، وثانيها أن هذا البلد نفسه وهذا المجتمع هو الذي قتل فيه الصوفي ولد الشين في مأمنه (مفوضية شرطة)، وثالثها هو أن الرجل يصف المجتمع بهذه السلمية ثم يتهم صحفيا ومحام نائبا ونائبا من هذا المجتمع بالتحريض على القتل والفوضى، إذن إما أنه يخرجهم من أبناء الوطن أو أن اليمين المفترض غموس مفترض!!
9_ إن الكلام عن الانتقام في رسالة موجهة لمن لم يكتبوا هذا اللفظ مطلقا هو انتقام من ماض سياسي أو افتئات لا يليق بصديق وشخص مسؤول. أما تذكر دماء محمد الأمين ولد صمب قتيل بوگى، دون شجاعة المطالبة بالتحقيق _ مجرد التحقيق _ فيمن قلته ولماذا قتله؟ ولا الكلام عن دفنه دون مشاركة أسرته هو انحياز للقوي في صولته ضد الضعيف في مصيبته _ مولانا ينجاهْ _ وتلك لعمري ليست من شيم الساعين إلى بناء الوطن على أسس صلبة ولا دعاة العدل والانصاف .. إن الدماء كل الدماء غالية!!
10 _ أخيرا، السيد رئيس سلطة الإشهار، إذا لقيتم صديقي ديدي قولوا له إننا ما زلنا عند ملتقى الطرق الذي التقينا فيه قبل ربع قرن، ملتقى طرقه الأربع التضحية والمباديء والانحياز للمظلومين وعدم مهادنة القوي الظالم، وإن النفق الذي يمر أسفل التقاطع لم نره بعد مناسبا فلا هو يؤدي إلى الوجهة السليمة ولا هو مأمون المصير، لقد سلكه كثيرون من قبل فلا أرضا قطعوا ولا ظهرا أبقوا.
فسلام على ديدي يوم كتبَ قبل ثمان حجج منتقدا دفاع الأستاذ سيدي محمد ولد محم والدكتور ايزيد بيه ولد محمد محمود عن ما يريده القصر الرئاسي والرئيس حين كانا ناطقين باسم الحكومة: “أوقن أن صياغة ما يريده القصر لن يطرح مشكلة لسيد الصياغات اللغوية المجنحة (يقصد يزيد بيه) ولن يبذه ولد محم في الاستماتة في التعبير عما يُظَن أنه مراد الرئيس”.
وحين كتب قبل ذلك: “واليوم تقتاد الشرطة الموريتانية برام من واحدة من السوح التي رابط فيها جهرا منذ أكثر من ثلاثة أعوام، ليس لأن برام ومجموعة معه “استعملوا العنف ضد أفراد من الشرطة أثناء تأديتهم لمهام رسمية”، بل لأن ولد اعبيدي تجاوز “الخطوط الحمر” في الدفاع عما يراه حقا. ترتكب الشرطة خطأها الألف بعد المائة باعتقال مناضلين عبروا، على طريقتهم، عن رأيهم في جرم ما زال يمارسه الكثير من أبناء الشعب الموريتاني تحت غطاء “الجهل” و”الفاقة” ودون غطاء أحيانا!!. وتواصل السلطة السياسية تربيتها على أكتاف أبناء شرطتها المدللين، وهم يقمعون زمرة من أبناء هذا الوطن قالت كلمة “حق عند سلطان…”.
ذلك هو صديقي ديدي في نسخته الأولى الفطرية الصادقة، أما رئيس سلطة الإشهار فهو مسؤول رسمي في نظام فاسد، يضع نفسه حيث يريد، وسيحكم التاريخ والشعب على كل ذلك.
فإن غدا لناظره قريب !!