الحكومة المرتقبة..المهمات والرهانات !../ د.محمد ولد عابدين

تشرئب أعناق الموريتانيين هذه الأيام إلى تشكيل حكومتهم المرتقبة ؛ يحدوهم الأمل لإحداث تحول جذري وقطيعة شاملة مع رواسب الأداء الهزيل وشوائب التسيير الهجين لمقدرات البلد وثرواته وأهم ملفاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشائكة ، إذ الحاجة ملحة – أكثر من أي وقت مضى- إلى تشكيل حكومة قوية منسجمة ومتماسكة ؛ قادرة على الإنجاز والعمل بروح الفريق ، رفعا للتحديات ومواكبة للتطلعات ؛ يؤازرها ذراع سياسي فعال يكون بحجم المرحلة ومقاسها ، ومشهد إعلامي قوي يعكس قيمها وخطابها ، ولامندوحة عن ضرورة انبثاق المشهد الجديد وتخلقه من رحم وعي عميق وتشخيص دقيق للأخلال البنيوية والمشاكل الجوهرية للبلد.

إن بلدنا يمر بلحظة مفصلية وتواجهه تحديات أمنية وتنموية – إقليمية ودولية ، وتنتظره استحقاقات رئاسية مصيرية وأجندات سياسية واقتصادية واجتماعية ضاغطة ، فضلا عن الرهانات التنموية والأمنية والمخاطر الجيو – ستراتيجية المحدقة الناجمة عن الوضع الأمني وحالات التوتر المسجل فى الجوار الإقليمي جنوبا وشمالا ، وفى ظل هذه الوضعية الإقليمية والدولية الصعبة ، يتعين الشروع فى إطلاق ورشات تنموية تمهد لعمل مؤسسي جاد ؛ يحدث جملة تحولات عميقة وإصلاحات جذرية وشاملة ، وسأعرض فى هذا المقال لجملة من الأفكار والمقترحات ، أراها فى طليعة رهانات المرحلة ومهمات الحكومة المرتقبة وأولوياتها التى يتعين عليها أن تشرع فى صياغة مقاربات ناجعة لتحقيقها ، وبلورة سياسات فعالة لتنفيذها :

– توطيد دعائم مناخ التهدئة السياسية ورأب الصدع ومواصلة العمل على نهج أخلقة المشهد السياسي الوطني ؛ بوصفه أكبر مكسب سياسي تحقق خلال هذه المأمورية ، فضلا عن الحاجة إلى تفعيل آليات التشاور القمين بأن يثمر – فى هذه اللحظة الفارقة القلقة – خارطة طريق ناجزة وأجندة توافقية جاهزة ؛ مستجيبة لتطلعات فرقاء المشهد السياسي إلى بناء نظام ديمقراطي صلب وقوي ؛ فاللحظة تاريخية من أجل تجذير خيار النهج الديمقراطي الحضاري ، وتحتاج فقط إلى نخبة وطنية تقود تحولا مجتمعيا ، وتصوغ مشروعا توافقيا لتحديث البلد وتنميته وتقوية حكامته السياسية وبناء قدراته الاقتصادية الذاتية وتعزيز وحدته الوطنية وتماسك لحمته الاجتماعية ، بعيدا عن خطاب الاستقطاب ولغة الاحتراب واستحكام العقلية لبراكماتية الساعية لتحقيق مكاسب سياسية آنية.

– العمل على تعزيز الوحدة الوطنية وتوطيد دعائمها ؛ استلهاما وتجسيدا لروح “خطاب وادان” واستئناسا وتفعيلا “لإعلان جول” ..بعيدا عن المناكفات والمماحكات السياسية ؛ من خلال إطلاق المشاريع الاقتصادية المعززة للوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية ، وتنفيذ برامج التوعية الإعلامية وتنظيم الندوات والبرامج الحوارية الجادة حول قضايا الحكامة والإدارة والتنمية وإشكالات المجتمع والثقافة والهوية دون خجل أو وجل ..ودون محاذير أوتابوهات ، وأنا على يقين بأن الاختلاف الخلاق!..هو الذى ينتج الإجماع والاتفاق ، ونحن بكل مكوناتنا الاجتماعية وتنوعنا الثقافي لدينا ثوابت دستورية صلبة ومتينة لبناء دولة وطنية مدنية معاصرة وقوية.

– وضع وتنفيذ استراتيجات جادة وفعالة لمحاربة الفقر المدقع ، وتعزيز نهج التكفل بالمعوزين للتخفيف من وطأة الفاقة والبؤس الاجتماعي ؛ ويتعين فى هذا السياق مراجعة برامج وسياسات ” تآزر ” وتفعيلها وتنويعها لتصبح آلياتها أكثر نجاعة وسرعة فى دعم ومؤازرة الفئات الهشة والمغبونة ، مع التنويه ببعض المكاسب الطيبة المتحققة على مستوى السياسات الاجتماعية ومحاربة الفقر خلال هذه المأمورية.

– تفعيل المقاربة الأمنية ورفع مستوى الكفاءة والجاهزية لدى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الوطنية ؛ من أجل مواصلة التصدى الحاسم للجريمة داخليا ، ومواجهة التحدى الخارجي الناجم عن الأوضاع الإقليمية المضطربة فى شبه المنطقة بحزم ويقظة وفاعلية ، فلاشيئ يعدل مكسب الأمن والاستقرار فى منطقة يجتاحها التطرف والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والهجرة السرية…وغيرها من المخاطر والتحديات الأمنية المزمنة.

– التأسيس لمرحلة جديدة من محاربة الفساد بلا هوادة ، فمهما كانت وتيرة التطوير والبناء وحجم مشاريع الإعمار ؛ فلاتنمية فى ظل غياب قيم الحكامة الرشيدة وحسن التسيير ؛ ومعاول الهدم أسرع وأمضى من أدوات البناء ، فلامندوحة عن القطيعة النهائية مع ممارسات الفساد والزبونية والمحسوبية ، وشن حرب غير تقليدية على كل مظاهرالفساد وأشكاله المقنعة ؛ من خلال انتهاج استراتيجية وقائية استباقية في هذا السياق ، تنطلق من تفعيل أجهزة الرقابة ومتابعتها ، وتكثيف بعثات التفتيش ومضاعفتها ، فضلا عن ضرورة اتباع مقاربة جديدة فى التعيينات ؛ عمادها تكليف الأطر الأكفاء الذين هم ” مظنة للإصلاح ” وإقصاء و إعفاء ” أصحاب السوابق ” فى سوء التسيير ونهب المال العام.

– إطلاق نهج جديد فى الحكامة ؛ مؤسس على المصالحة مع الشباب وقائم على إشراكه فى التسيير وإدارة الشأن العام وصناعة القرار والتخطيط والاستشراف ؛ تحريرا لطاقاته المعطلة وتثمينا لكفاءاته المهمشة ؛ فالبلد بحاجة إلى طموح الشباب المندفع نحو التغيير ورغبته الجامحة فى جودة الحكامة وحسن التسيير ، فضلا عن ضرورة خلق واستحداث برامج جديدة وفعالة للتشغيل ومحاربة البطالة للحد من نزيف هجرة الشباب ومايترتب عليها من استنزاف خطير لطاقات البلد ومصادره البشرية الحيوية.

– ضخ دماء جديدة فى الجهاز الحكومي والإداري تتمتع بكفاءة عالية ونزاهة مهنية ، متشبعة بقيم الحكامة الجيدة ومستلهمة لمبادئ التسيير المسؤول الشفاف الذى يضمن فعالية ونجاعة أداء المرفق العمومي ، ويكفل ترجمة السياسات والاستراتيجيات الحكومية إلى مشاريع وبرامج ميدانية ملموسة ؛ تستجيب لأفق انتظار المواطن المتشوف والمتعطش لتلبية حاجاته الخدمية الآنية وتطلعاته التنموية المستقبلية.

– وضع رؤية شاملة لتطوير الإدارة وتحديثها ورقمننها ؛ وتقريب خدماتها من المواطنين والقضاء على البيروقراطية والفساد الإداري والرشوة والزبونية ، وتجذير قيم المواطنة وتحرير الموظف العمومي من ربقة الانتماءات الضيقة السياسية و الحزبية والاجتماعية والجهوية والعرقية والقبلية ، وتكريس ولائه المطلق لمصلحة الوطن وخدمة المواطن ، انطلاقا من مضامين خطاب الرئيس قبل أزيد من سنة أمام خريجي المدرسة الوطنية للإدارة ، حيث عجزت الحكومة الحالية عن استيعاب وتنفيذ رسائل وتوصيات ذلك الخطاب وغيره من الخطابات الحصيفة الأخرى التى عجز الجهاز التنفيذي عن مواكبتها وتجسيدها.

– تكثيف ومضاعفة الجهود الحكومية المبذولة ؛ من أجل مواكبة ودعم المواطنين من المحتاجين والفئات الهشة ومحدودى الدخل باستحداث جملة من البرامج والمشاريع وخلق الفرص المدرة للدخل ، وتفعيل سياسات التشغيل لضمان تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتحقيق الأمن الغذائي ، والعمل على الحد من إشكالية ارتفاع الأسعار ؛ عن طريق تسريع وتفعيل صلاحيات الآلية الوطنية المستحدثة لهذا الغرض والتنسيق مع الموردين ورجال الاعمال وتفعيل آليات رقابة السوق.

– ونحن قاب قوسين أوأدنى من الولوج إلى نادى الدول المصدرة والمنتجة للغاز ، نحتاج إلى جملة إجراءات تمهد بانسيابية لهذه اللحظة الاقتصادية الفارقة ، فضلا عن ضرورة العمل على خلق بيئة مستقطبة وجالبة للاستثمارات الخارجية ؛ من خلال تفعيل قواعد وآليات الحكامة وإشاعة قيم ومبادئ الشفافية فى الحياة العامة ، وتطوير وتحسين المدونة القانونية والترسانة التشريعية والمؤسسية المنظمة لحقل الاستثمار ، نظرا لدوره المحوري فى النهوض الاقتصادي وإطلاق قاطرة التنمية.

– التركيز على الاستثمار فى قطاعات الثروة المتجددة ؛ بوصفها قطاعات حيوية ذات قيمة مضافة عالية مثل : الزراعة والتنمية الحيوانية والصيد والطاقة ، تأسيسا على دورها المحوري فى تفعيل الاقتصاد المحلي ، وتحقيق الأمن الغذائي ، وتوفير الاكتفاء الذاتي ، وخلق فرص التشغيل ، عبر إحداث تناغم بين القطاعين العام والخاص ، يتجسد فى نسج شراكات عميقة ومثمرة وبناءة.

وعموما فإن الحكومة المرتقبة سياسية كانت أوفنية..أو توليفة من رجال السياسة و حملة الرأي وقادة الفكر والتكنوقراط والخبراء والفنيين المتخصصين تنتظرها مهمات ورهانات وتواجهها تحديات وعقبات محلية وإقليمية ودولية كبيرة ، وهي مطالبة بالارتقاء بمستوى أدائها والإسراع فى وتيرة إنجازها ، مع قوة الاستشراف ودقة التخطيط وعمق التفكير فى برامجها ومقارباتها وسياساتها التنموية ، وهي تراعى فى كل ذلك مسارين متوازيين ؛ مسار منطقه ظرفي آني استعجالي ، وغرضه التخفيف من وطأة الفاقة وشح الموارد وحدة الأزمات الأمنية والتنموية ، ومسار منطلقه استراتيجي مستقبلي استشرافي فى ضوء الآفاق الاقتصادية الواعدة ، وغايته النهوض والإقلاع بالبلد ، وجعله واحة للأمن وبوابة للتنمية.

د.محمد ولد عابدين
أكاديمي وإعلامي.

زر الذهاب إلى الأعلى