أكثر من 50 قتيلا موريتانيا بنيران الجيش المالي خلال عقد.. حشود عسكرية مالية على حدود موريتانيا.. وأزمة دبلوماسية متصاعدة

على المشترك الجغرافي والمجتمعي بين موريتانيا ومالي مضت قرون من الإخاء والصراع والشد والجذب، وبمقتضيات متعددة، فإن أجزاء واسعة من مالي هي جزء أصيل من “اتراب البيظان” تلك الأرض التي حدودها منتهى اللهجة الحسانية.

وبمنطق التاريخ أيضا فإن أجزاء من موريتانيا كانت جزء من مملكة مالي، ومن إقليم السودان الفرنسي حسب التسمية الفرنسية إلى حدود العام 1945، حيث انتهت سنوات “التمولي” ومدت موريتانيا ذراعيها على حوضيها الذين كانا يتبعان للسلطة الاستعمارية الفرنسية في مالي.

وكانت مالي جزء من دولة المرابطون، ذات التاريخ الأثيل.

وبمنطق أكثر عمقا واستمرارية فإن العلاقات بين البلدين ظلت لعقود طويلة قوية وراسخة، رغم الهزات الشديدة التي طالتها.

كانت البداية بعد استقرار البنية الجغرافية للبلدين، عندما غضب الرئيس المالي الأول موديبو كيتا من خطاب الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه سنة 1958 في أطار عندما اعتبر أن موريتانيا هي طائر كبير له جناحان هما أزواد والصحراء الغربية.

لم يغضب موديبو كيتا فقط، بل غضب أيضا محمد الخامس، وبعد الاستقلال كان للثلاثي المغرب ومالي والسنغال سعي حثيث للإضرار بموريتانيا، وفي سنة 1968، أرسل الضباط الماليون رئيسهم موديبو كيتا إلى سحن مؤلم أمضى فيه بقية حياته، حتى أخرجت زنزانته من السجن ليوارى الثرى.

في تلك السنوات الثمانية، مارس النظام المالي واحدة من أبشع المجازر بحق العرب والطوارق، فقتل المئات من قبائل البيظان، وأعدم عددا كبيرا من العلماء، وأحرقت مساجد كثيرة، وسممت آبار، وبسبب ذلك لجأ عدد كبير من الماليين إلى موريتانيا والنيجر وليبيا.

كان من بين الجرائم البشعة التي نفذها جيش مالي عملية شنق وإطلاق الرصاص من فوهة مدفع ضخم على جسد الشيخ الضرير حيبللّ (حبيب الله) بن الشيخ عابدين بن سيد مْحمد الكنتي بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتي، كانت تلك الجريمة واحدة من أبشع جرائم التصفية المقيتة التي كانت تتأسس على بعدين:

العنصرية تجاه كل البيض في أزواد

العداوة الشديدة للدين، في ظل نظام شيوعي توجه شطر الاتحاد السوفيتي، تماما مثلما فعل العقيد عاصميتي كويتا حاليا.

موريتانيا.. طرف في السلام لا الحرب

خلال الستين سنة المنصرمة شهدت منطقة أزواد عدة ثورات كانت موريتانيا دائما جزء أساسيا من السلام لا الحرب وركنا دائما للاستضافة الكريمة لا الطرد.

ومن أبرز هذه الثورات:

ثورة 1962: والتي تعرضت بموجبها قبائل متعددة من العرب الماليين، وفي مناطق التداخل الجغرافي مع موريتانيا لإبادة عنصرية، وقد أرغمت عدوان الجيش المالي السكان على النزوح والفرار لتقضي الحرب والجفاف على الناس والأرض في أزواد.

ثورة 1992: وقد تمكن عدد من قادتها من بناء قوتهم السياسية والعسكرية انطلاقا من موريتانيا، والجزائر والنيجر وليبيا، ونفذوا ضربات موجعة بحق الجيش المالي، لكن تلك الثورة المؤلمة فرضت حالة نزوح كبيرة تجاه موريتانيا، كلفت البلاد استنزافا اقتصايا وأمنيا شديدا

ثورة 2012: كادت هذه الثورة التي نفذت بجزء مهم من ترسانة السلاح الليبي أن تدمر الحكومة المركزية في باماكو، ووصلت كتائب المسلحين الأزواديين من حركات سياسية وجماعات إسلامية إلى حوالي 250 كلم من العاصمة المالية قبل أن يتدخل الطيران الفرنسي لتأمين حكومة ونظام باماكو من الانهيار

اللهب المالي.. من رصاص الإرهاب إلى رصاص فاغنير

سقط نظام الرئيس الراحل آمادو توماني توري بعد أن ترسخ في أذهان زعماء المنطقة أنه يعمل بشراكة وتحالف غير معلن مع الجماعات الإرهابية التي كانت تطلق لهبها على كل المنطقة من الأراضي المالية.

وقد خاضت موريتانيا منذ العام 2005 حربا ضروسا تجاه الإرهاب الذي كان متمركزا في الأراضي المالية بشكل قوي، قبل أن تقرر في سنوات 2009 ، 2010 ، 2011 الدخول وبشكل قوي في مواجهة عنيفة مع الجماعات الإرهابية، والتوغل في الأراضي المالية، دون استئذان من الحكومات المالية، فخاضت معركة حاسي سيدي وطهرت غابة واغادوغو؛ لأن من حقها الدفاع عن النفسن ورد المعتدي وحماية البلد، وإذا لم تستطع مالي ضبط حدودها ومنع المتسللين من أرضها إلى الأرض الموريتانية فمن حق موريتانيا ومن واجبها أن تفعل ذلك، وهو ما كلفها عددا كبيرا من شهداء الجيش الوطني، ولكنها تمكنت أيضا من إحراق غابة واغادو على المحتمين بها من الجماعات الإرهابية، وحين قامت بذلك الواجب لم يقل أحد حينها إن موريتانيا انتهكت السيادة المالية أو تسعى لغزو مالي.ولاحقا تمكنت موريتانيا من الوصول إلى حالة مهادنة مع الجماعات التي أبعدت خيلها و رجلها وحربها عن موريتانيا.

والوضع هنا مختلف، فالجيش الموريتاني نظيف ولا يجهز على جريح ولا يغتصب النساء ولايقتل على الهوية، على الأقل في صراعه مع الجار المالي.

الجرائم المالية ضد الموريتانيين.. حرب مستعرة

لا تعرف بداية حقيقية لعدوان الجيش المالي على الموريتانيين، لكن المؤكد أن هذا العدوان يملك ذاكرة تمتد على أكثر من 50 سنة على الأقل، ومن أشهر المقاتل التي نفذها الجيش المالي ضد المواطنين الموريتانيين:

– مقتل 12 داعية موريتانية في شهر سبتمبر من العام 2012، على يد الجيش المالي وبشكل همجي وعدواني، وأدى ذلك القتل الفظيع إلى غضب واسع في الشارع الموريتاني

– مقتل 29 موريتانيا في مارس 2022 وهي الجريمة التي أثبت تقرير للأمم المتحدة تورط الجيش المالي فيها

– مقتل 7 موريتانيين في مالي سنة 2022، وقد تعهدت مالي يومها بإجراء تحقيق، دون أن تعترف بمسؤوليتها تجاه هذه الجريمة.

– مقتل المواطن الموريتاني “سيد أب ولد مرب”، وذلك بعد إطلاق النار عليه أثناء قيادته لسيارته القادمة من الأراضي الموريتانية إلى الأراضي المالية، وذلك في 6 يوليو 2019.

– مقتل مسن موريتاني يدعى بي ولد النفاع في 10 مارس 2024 بعد خطفه من الجيش المالي.

– مقتل 4 موريتانيين على يد الجيش المالي في 4 إبريل 2024.

ينضاف إلى هذا عدد كبير من حوادث القتل التي لم يعلن عنها، أو لم تلق اهتماما كبيرا، إضافة إلى عمليات الاعتقال التعسفي ومصادرة السيارات والمواشي بين الحين والآخر.

لم نتحدث هنا عن التقتيل والتشريد الممارس في حق مجموعة الفلان وغيرها من المجموعات ذات الامتداد الوطني.

المواطنون الماليون.. هجرة دائمة نحو موريتانيا

تقدر مصادر متعددة عدد المالييين الداخلين إلى موريتانيا بما يقارب 30 ألفا شهريا، ويستقر عدد كبير من هؤلاء في موريتانيا، فيما يعود بعضهم إلى بلاده، ويتوجه أخرون إلى بلدان أخرى من العالم.

زيادة على ذلك تأوي موريتانيا أكثر من 250 ألف من اللاجئين الأزواديين، وعددهم في ارتفاع متزايد، ويتوقع أن يصل إلى قرابة نصف مليون إذا استمرت الحملة المالية على الحدود مع موريتانيا.

عوامل التوتر الطارئ

تدفع إلى التوتر الطارئ بين موريتانيا ومالي عدة عوامل أبرزها:

استمرار الجيش المالي في استهداف المدنيين الموريتانيين، وتوغل القوات المالية وقوات فاغنير في الأراضي الموريتاني

إخلاف السلطات المالية لوعودها المتكررة بمنع استهداف الموريتانيين، وبإطلاع الجانب الموريتاني على نتائج التحقيقات

تفاقم أزمة اللاجئين الماليين إلى موريتانيا: وهي أزمة يغذيها عنف الجيش المالي وعصابات فاغنير وتضيف أعباء شديدة تجاه موريتانيا.

نشر الجيش المالي جيشه: على طول الحدود مع موريتايا، في مشهد يمكن اعتباره استفزازيا للبلاد.

أوراق القوة المتبادلة

تملك مالي أكثر من ورقة قوة من أبرزها:

– ­­ جاهزية الجيش المالي وتسليحه المتواصل، وتحفزه للحرب إضافة إلى إسناده من عصابات فاغنير

– التحكم في كثير من المصالح الموريتانية في التجارة والمراعي، حيث يعتمد مئات الآلاف من الموريتانيين على الرعي والانتجاع والاستيراد من مالي

وفي مقابل ذلك فإن موريتانيا تملك أوراق قوة أخرى مهمة منها:

– التحكم في جزء أساسي من الاقتصاد المالي الوارد عبر ميناء نواكشوط.

– التفوق العسكري وثقة المواطنين الماليين في الشمال بالجيش الموريتاني

– الموقف الدولي المناوئ في أغلبه للنظام العسكري في مالي

– وجود جاليات مالية كبيرة، وتتألف أساسا من اللاجئين الأزواديين المناوئين لحكومة باماكو، إضافة إلى عشرات الآلاف من العمال الماليين في مختلف الأراضي الموريتانية

آفاق المشهد

يستبعد أن يتورط البلدان في حرب، ويتوقع أن تسهم بعض الوساطات والنقاشات البينية بين الطرفين في حلحلة الأزمة، لكنها ينبغي أن تكون من أجل الوصول إلى:

– ترسيم الحدود بشكل نهائي بين البلدين

– تثبيث المعابر الإلزامية التسعة بين البلدين

– تخفيف اعتماد المنمين الموريتانيين على مالي

– معالجة حالة اللجوء المالي المتصاعد في موريتانيا

ومن بين هذه الخيارات المتعددة، لا يبدو أن الخيار الأسوء سيكون مستحيلا، خصوصا مع إحساس الحكام الشباب في مالي بتفوقهم العسكري، وإمساك فاغنير بزمامهم أكثر من إمساكهم هم بزمام السلطة في بلد على مشارف الانهيار، مقابل آخر على مشارف أن يكون من الدول المصدرة للغاز وهو أمر مقلق للدب الروسي.

موقع الفكر

زر الذهاب إلى الأعلى