
صرخة من ولاته: بين مجد تليد ومستقبل غامض/ سيد محمد الولاتي
في عمق الصحراء الموريتانية، تقف مدينة ولاتة شاهدة على عظمة تاريخنا الديني، الثقافي، والمعماري. مدينة مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، لعبت عبر العصور دورا محوريا كمركز للتبادل العلمي والتجاري، ومرت بمرحلة ازدهار أسهمت في تعزيز هوية الوطن من خلال المحاظر والمكتبات العريقة، التي شكلت منارة للعلماء والمثقفين في المنطقة.
اليوم، تواجه المدينة تحديات كبرى تهدد بفقدان جزء كبير من هويتها الثقافية والتاريخية، وسط صمت رسمي ولا مبالاة مقلقة، في وقت يمكن فيه استثمار هذا الإرث لإحياء اقتصاد محلي مزدهر.
تعد ولاتة متحفا مفتوحا في الهواء الطلق، لكن هذا المتحف يتداعى بصمت. البيوت الطينية التي تحمل في جدرانها عمقا معماريا ضاربا في القدم تنهار يوما بعد يوم بسبب الإهمال وغياب الصيانة. أما فنون الزخرفة والحرف التقليدية التي اشتهرت بها المدينة، فتوشك على الاندثار نتيجة انقطاع سلسلة التكوين بين الأجيال، وهو ما يمكن تداركه بإعادة التكوين وإحياء الحرف في المستقبل القريب.
تواجه المخطوطات القديمة، جواهر التراث الإسلامي والثقافي، خطرا داهما بسبب الإهمال وغياب السياسة الوطنية الواضحة لحفظها. المكتبات تعاني من شح الإمكانات وغياب الدعم المؤسسي. أما المحاظر، فقد تراجعت مكانتها بسبب قلة المدرسين وانعدام التمويل، مما يستدعي إصلاحا جذريا للمسار المحظري، يزاوج بين الأصالة والتجديد، ويمكن أن يعيد الدور العلمي الريادي للمدينة مستقبلا.
العزلة تعيق التنمية
رغم مكانتها التاريخية، تعيش ولاتة عزلة خانقة. فغياب طريق معبد يربطها بمدينة النعمة، عاصمة ولاية الحوض الشرقي، يشكل عقبة كبرى أمام أي تنمية ممكنة. الشباب، وقد سدت أمامهم سبل المستقبل، يغادرون المدينة جماعيا، فيما يتهدد من تبقى منهم الضياع أو الانحراف، بما يشكل خطرا على السكان الذين يعانون من انتشار ظاهرة السرقة، وهي ظاهرة جديدة على المدينة. إن فك هذه العزلة قد يمهد لمرحلة جديدة من الانتعاش السكاني والتنموي.
أما فيما يخص المياه، فرغم التحسن النسبي الناتج عن مشروع مياه أظهر، فإن الإنجاز تم بعيدا عن المهنية، ما جعل التزويد هشا وغير مستقر، مع انقطاعات متكررة، أعطاب تقنية، وتسيير يشوبه الفساد. هذا الواقع حال دون طموح الساكنة في إطلاق مشاريع تنمية زراعية أو رعوية مستدامة، كانت لتبعث الأمل في نفوس السكان. كما يعاني القطاع الصحي من ضعف شديد، يستدعي تدخلا عاجلا لتعزيز الخدمات الصحية الأساسية، ويفتح المجال لاحقا لإنشاء مركز صحي متكامل يخدم المنطقة.
لا بد من انتفاضة جماعية
أمام هذا الواقع المؤلم، ترتفع أصوات المختصين والمثقفين والمحبّين للمدينة مطالبة بتحرك وطني شامل لإنقاذ مدينة ولاتة التاريخية. ومن بين المقترحات العملية التي نراها مهمة:
1. إنعاش اقتصادي محلي: عبر دعم مشاريع زراعية صغيرة لتوفير فرص عمل والحد من الهجرة. فولاتة تمتلك مشروعا زراعيا قديما يحتاج إلى إعادة تأهيل وتخطيط علمي، مع إمكانية إدخال التقنيات الزراعية الحديثة في المستقبل؛
2. تمييز إيجابي لصالح ولاتة: من خلال إدماجها في سياسات التنمية الوطنية بإجراءات تحفيزية خاصة؛
3. تحسين البنية التحتية: بتعبيد طريق يربط ولاتة بالنعمة، يفك العزلة ويعزز التبادل التجاري، مما قد يفتح فرصا مستقبلية للاستثمار؛
4. دعم التعليم وبناء الإنسان: يتطلب استبقاء السكان، خصوصا الشباب، توفير منظومة تعليمية مكتملة حتى شهادة البكالوريا. ويستحسن تبني نموذج “المدرسة الخضراء”، الذي يتيح بيئة مدرسية نقية وآمنة، تتسم بالوعي التربوي وتمنح الفضاء التعليمي طابعا توعويا، يصون النشء من الانزلاق نحو مظاهر الانحراف. كما يعد تنظيم الأيام الثقافية والأولمبية، إلى جانب الزيارات الموجهة للأطفال إلى المسجد العتيق والأحياء القديمة، سبيلا لترسيخ الوعي بالتاريخ وتعميق الانتماء. وما تجمعه هذه المبادرات من قيم إنسانية، من شأنه أن يفضي إلى بيئة تعليمية مستدامة وفاعلة، تسهم في بناء جيل واع ومبدع؛
5. الحفاظ على المدينة القديمة: تشجيع السكن في الأحياء القديمة يمكن أن يتم عبر دعم فواتير الكهرباء والماء، وتخصيص مساعدات لترميم المنازل في كل موسم خريف. فملاك هذه البيوت لا يحمون ممتلكاتهم فقط، بل يصونون جزءا من تراث وطني عالمي يستحق البقاء، وقد تصبح هذه الأحياء لاحقا مراكز جذب سياحي واستثماري؛
6. تشجيع السكن في المدينة التاريخية بدل التقري العشوائي في المقاطعة: للحد من ظاهرة التقري العشوائي في المقاطعة، يقترح تحفيز سكان قرى المقاطعة على الانتقال للسكن داخل المدينة التاريخية، وذلك من خلال تقديم حوافز ملموسة، مثل توفير الخدمات الأساسية، وتقديم الدعم والمساعدة في مختلف الجوانب الحياتية. ويساعد هذا التوجه في ضبط الخدمات ورفع جودتها، مما يسهم في تحسين نتائج التنمية الحضرية والاجتماعية؛
7. إحياء الحرف والصناعة التقليدية: ينبغي إطلاق برامج تكوين ودعم للحرفيين لضمان انتقال المهارات عبر الأجيال. كما يقترح إنشاء مركز ومتحف للحرف التقليدية، يعرض منتجات محلية للسياح، ويمهد الطريق أمام تسويقها خارجيا، مما يتيح فرص عمل جديدة وينشئ سوقا محلية مستقبلا؛
8. نقطة لتوجيه السياح نحو تجربة أكثر عمقا: كما هو معمول به في العديد من المناطق السياحية ذات الطابع التراثي، يقترح تكوين مرشدين سياحيين وإنشاء نقطة لإرشاد السياح في مدينة ولاتة، تتولى استقبال الزوار وتقديم شروحات تعريفية بالمواقع التاريخية والأثرية. يمكن لهذا المركز أن يلعب دورا مهما في تنظيم مهرجان مدائن التراث، مما يعزز جاذبية المدينة ويخلق فرص عمل للشباب، وقد يؤسس لتجربة سياحية مستدامة لاحقا؛
9. فضاء للترفيه والسياحة الصحية: إقامة حديقة ترفيهية ستوفر متنفسا ضروريا للسكان، وتعزز الروابط الاجتماعية. أما إنشاء مركز دولي لإنقاص الوزن واللياقة البدنية وسط الصحراء، يضم قاعات رياضية، مسبحا، مطعما، ومساكن فندقية، فسيحول ولاتة إلى قبلة للسياحة الصحية، تجمع بين النشاط البدني والتغذية الطبيعية والراحة النفسية في بيئة صحراوية ساحرة؛
10. ثكنة عسكرية… لأمن المنطقة وتنميتها: في ظل ‘’ الموقع الحدودي’’ الحساس الذي تحتله مدينة ولاتة، فإن وجود قوة نظامية دائمة في المنطقة يمثل عامل استقرار ضروري لتأمين السكان وتشجيع الاستثمار، وقد تساهم مستقبلا في خلق بنى تحتية أمنية ومدنية داعمة؛
11.بعث روحي وثقافي متجدد: من بين المقترحات الجوهرية النابعة من وعي بحتمية استنهاض الموروث الحضاري، يبرز إنشاء مركز وطني للدراسات الإسلامية، يستلهم روح النموذج المحظري، ويؤسس لمقاربة معرفية تزاوج بين أصالة التعليم التقليدي ورؤى الحداثة، في مسعى لإعادة الاعتبار لمدينة ولاتة كمركز للإشعاع الفكري والتنوير الثقافي. وفي السياق ذاته، يغدو إحياء السياحة الثقافية ضرورة ملحة، عبر ترميم خزائن المخطوطات، وإنقاذ ما اندثر منها، وتأسيس متحف يخلد الذاكرة التاريخية، فضلا عن إنشاء مسارات سياحية تربط مدائن التراث، بما يمهد لولادة موسمٍ ثقافي سياحي دائم، ذي أبعاد تنموية ومعرفية.
حماية ولاتة… رؤية نحو المستقبل
إن إنقاذ مدينة ولاتة التاريخية لا يعني مجرد ترميم جدرانها، بل هو حفاظ على هوية وطنية عميقة. فهي درة التراث الموريتاني، وركن من أركان كبرياء الوطن. ومن الإنصاف أن تدرج في صلب الرؤية التنموية، باعتبارها أقدم مدن الوطن وأغناها إرثا، لا وفاء للماضي فحسب، بل برؤية جريئة نحو المستقبل، تجعل منها نموذجا للالتقاء بين الأصالة والتنمية.