“دكداكه”.. من تراث الحوض الشرقي
التراث الفلكلوري الشعبي هو ثروة كبيرة من القيم الاخلاقية و الآداب الجماهيرية و الأحداث التاريخية… التي يرثها الأحفاد عن الأجداد، أو هو مجموعة المعارف و التجارب التي تتناقلها الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة طبعا مع إضافة لمساتها من تجارب و خبرات حياتية مكتسبة.
و التركيز عليه كتابة و تصويرا هو دعم للاقتصاد المحلي، و إبراز للهوية و القواسم الإنسانية البينية و تحفيزا للمبادرات الرامية لرعاية هذا النمط المعرفي ( التراث )..
إن بناء مستقبل أمة من الأمم لابد أن ينطلق من حاضرها الذي تعيش فيه..
الحاضر الذي عاشته إنطلاقا من ثقافة ماضوية حافظت عليها و طورتها لتتلائم مع متطلباتها.
تلك الثقافة التي تشكل فسيفساء من المعارف و المهارات اتفق عليها جمع من الناس. و على تسميتها تراثا تاريخيا.. و هو عامل توحيد و اتحاد في الماضي و هكذا يجب أن يكون في الحاضر و المستقبل…
هو أيضا المرآة العاكسة التي تعطينا صورة صادقة عن فهم حياة مجتمع الأوائل، و نمط تفكيره، و طريقة عيشه..
بيد أن زحف الثقافات الأخرى الوافدة و هيمنتها على مرافق حياتنا جعل موروثنا الثقافي خاصة الفلكلوري منه يواجه خطر الاندثار و التلاشي..
فالأمة التي تقتات على ثقافة الأخر متناسية رصيدها الثقافي هي أمة محكوم عليها بالضياع.. هي أمة حكمت على نفسها بالعيش تابعة ذليلة تعاني من العقد الثقافية أو ما يمكن أن يسمى متلازمة “عيشه رخمه”…
و مساهمة منا في استنطاق موروثنا التراثي بغية إثراء الفضول المعرفي للباحثين، و مشاركة الآخرين في تسليط الضوء و نفض الغبار عن جوانب من تراثنا التليد.. سنتناول نمطا مهما يحظى بمكانة خاصة من الفنون الشعبية. كان و لازال يشكل رابطا عجيبا للأنسجام و التناغم، و عاملا أساسيا للتماسك الاجتماعي في منطقة الحوض عموما و مدينتي النعمة و ولاتة خصوصا..
مع أنه شهد انتشارا واسعا على طول الطريق الرابط بين تمبكتو شرقا و شنقيط غربا..
هذا النمط من الفن الفلكلوري يسمى جماهيريا “دكداكه”…
من نافلة القول أن منطقة الحوض ثروة تراثية ضاربة في التاريخ فبالإضافة إلى ما خلده شعراؤها و علماؤها من أشعار ( فصيحة و لهجية ) و مخطوطات و مؤلفات، و عمران شاهد على عظمة الإنسان في تلك الربوع.. و غير ذلك من أنواع التراث اللغوي و الحضاري و العلمي…
هناك أيضا فنونا فلكلورية جماهيرية لا تقل أهمية، و تزيد الكشكول أصالة و جمالا. من هذه الفنون الغسلة و الوافر و كالا.. و هذه في الأصل يؤديها الرعاة ( الرعيان ) بعد يوم شاق من رعاية الغنم و في ليلة البدر غالبا.. و قديما لا يستخدم فيها الطبل و إنما التصفيق المتواصل أي ما يعرف عند بعضهم ب ( لكو التصفاك )… و هو سمة مشتركة بين غالبية الفنون التقليدية في المنطقة..
منها أيضا التمجاد الذي يسمى في مناطق أخرى “المدح” و للتمجاد في منطقة النعمة ما يميزه فيسمونه “طبل المولود” و يمارسه أهل النعمة في عيد المولد النبوي الشريف طيلة الاسبوع الأول ما بين ( لخلاكه و الاسم ) أي على مدى السبع أو الثمان ليالي من المولد..
من طقوس هذه الفترة أجتماع رجال الحي على اختلاف فئاتهم و شرائحهم على عتبة الجامع القديم في النعمة من العشاء إلى العتمة للتغني بقصائد البوصيري المديحية و كان رائد هذا النوع من المديح المرحوم أبه ولد سيدي محمد، و ما زال منتشرا في ولاتة إلى يومنا هذا..
أ. ملاي الحسن ولد بابه مقابلة شفوية.
و من هذه الفنون إكله، و كوفلي، و جقمي..
منطقة الحوض من أمهات التراث لا يستقيم الحديث عنها إلا بالحديث عن الفنون التقليدية و لا يستقيم الحديث عن الفنون التقليدية إلا بالحديث عن أم هذه الفنون الفلكلورية “دكداكه” و هي أوركسترا شعبية تقليدية… أو جوق جماهيري كبير مهاب و معتبر و تتوارثه أسرة أهل أميسه في النعمة دون غيرها من الأسر..
هذا النمط من الفن الفلكلوري يمثله الآن محمد ولد إميسه الملقب ( بداهية توري ) الذي ورثه عن والده المرحوم آبه ولد إميسه الذي ورثه أيضا عن والده إميسه ولد سالم .
و هذا هو العرف المتبع حيث يرث أحد الأبناء “طبل دكداكه” و يحق له أن يضرب عليه أو يفوض أحدا من محيطه بالضرب عليه. أما الغناء فهو أداء نسائي جماعي..
“دكداكة” إذا تراث تقليدي مادي و معنوي أصيل يمارسه “الحراطين” في تلك البقعة الطاهرة من الأرض عبارة عن غناء تؤديه النسوة على إيقاع طبل كبير يسمى “دكداكه” أو “طبل دكداكه” مع التصفيق الحار الذي تمارسه النسوة و لا بأس بمشاركة الرجال فيه من أجل “لكو التصفاك” مما يزيد الحماس و ينعش الروح…
يحمل هذا الطبل رجل ورثه كابرا عن كابر.. الطبل عبارة عما يشبه “تنوة” من الخشب مجوفة من الجانبين مصنوعة من نوع من الشجر يسمى سانقو، أشرف على صناعتها أحد الصناع التقليديين المهرة..
على كل جانب جلد مدبوغ معد لهذا الغرض بين حافتي الطبل حبل غليظ يجعله الرجل في رقبته ليتدلى الطبل على بطنه ليتمكن من ضربه بكلتا يديه.. إحدى يديه التي يضرب بها إحدى جنبات الطبل يجعلها في غمد يشبه اليد مزينة بالنحاس و الحديد لبيظ، و في اليد الأخرى دبوس صغير يضرب بها على الطرف الثاني..
أما دكداكة النعمة فيجعل الحبل في الرقبة و يتم إمساك طبل دكداكه تحت الإبط و يضرب على جنب واحد من جنباته…
مما يزيد من حماس “طبل دكداكه” وجود ثلاث طبول صغيرة يضرب أولها بعصى خشبية معدة لذلك و يسمى تيتجي، أما الثاني فيضرب باليد و يسمى تماني و الثالث يسمى أمبرمبر.. و قد تطلق “أمبرمبر” على جميع الطبول، و لكل واحد منهم نغمة خاصة يعطيها أثناء ضربه ووسيلة خاصة أيضا للضرب..
و كذلك وجود “زوزايه” و هي عبارة عن دبوس من الحديد أو الخشب مجوفة طويلة ينفخ فيها رجل متمكن ذو نفس طويل… هذه الدبوس هي قاسم مشترك بين “دكداكة” النعمة و ولاتة قديما و المغرب و الجزائر و ربما ليبيا…
من الأدوات المستخدمة أحيانا في فن “دكداكه” و التي تزيد من حماس المشاركين و إنعاش الحاضرين وجود ما يسمى “لبناد” و مفردها “البند”..
و “لبناد” في الأصل تميز بعض المناسبات النعماوية عن غيرها وهي ثلاثة “أبناد” في مدينة النعمة واحد منها عند أهل ملاي عبد الله و يمثل الأنثى و الآخر عند أهل ملاي عبد الكريم و يمثل الذكر و “البند” الثالث استجلبه ملاي أسعيد ولد بابه عينينه فهو باق في أسرة أهل بابه عينينه و يمثل أيضا الأنثى.. و لا تخرج هذه “لبناد” إلا بمناسبة زفاف إحداهن لابن عمها نسبا، و في العقد شرطا.. و قديما قيل “لبناد أشهر من آزغاريت” لمكانته و عظم شأنه..
و “البند” عبارة عن دبوس طويل عليها ما يشبه الرأس مصنوع من النحاس الأصفر، مزين و منقوش، و يلبس لباسا من قماش حريري..
و ترقص به النساء و يستخدم لزيادة الحماس و الطرب، و للاستشهاد أن المرأة زفت لابن عمها، و أنهما أبكارا.. و لا يخرج إلا في مناسبات قليلة و جليلة.. أ. ملاي مامون ولد بابه عينينه عمدة سابق
أغاني “دكداكه” عبارة عن قصص تحكي بطولات و أمجاد بعض قدماء المدينة و معاركهم التي خاضوها ضد الأعداء الغزاة أو ضد بعض الحيوانات المفترسة..
أولى الأغاني التي تبدأ بها دكداكه و هذا عرف متبع لا يستحسن تغييره هي:
“بسم الله يا كبانجي” يا كبانجي..
الرحمن يا كبانجي.. يا كبانجي..
الرحيم يا كبانجي.. ياكبانجي..
آن وني يا كبان .. يا كبانجي..
بويه و أمي يا كبان.. يا كباه ياكبانجي…
و من أغانيها :
لاإله إلا الله…
يخوتي ذكرو ملان ..
اتصيبوا صحه و أسلامه..
لاإله إلا الله…
“صو كمبره كل صو كمبره” إحدى أغانيها التي تحكي عن زيارة أحمدو ولد الحاج عمر تال آخر ملوك السونغاي لمدينة النعمة كان مطلوبا للمستعمر الفرنسي في السودان الفرنسي..
ثم تتوالى الأغاني بنغمات آسرة و جذابة.. و تختلف مواضيعها باختلاف الحاضرين و المناسبات..
“صانونا كاي نيني تاي نفو.. عيشه كيمري نانا واي لفو” هذه أغنية وداع للمرأة “الشريفة” الراحلة إلى بيتها الجديد..
و إذا دخل حلبة الرقص ( المرجع ) أحد شرفاء المنطقة تتغير الكلمات إلى : “ونك يان.. مريا عين إرجالي.. يا كليبه…
أما إذا دخله أحد أبناء أهل أميسه فتصبح الكلمات:
“حان اندافو نبيغو.. بون إميسه نبيغو.. خل أولادو..
و من أغانيها أيضا:
هاذو هوم الشرفه لكبار.. لول هوم يخلك ( … )
هاذو هوم..
تاتا كابا..
هاذو هوم.. تاتا كابا..
و لطلب المعونة أثناء الحصاد تعترض النسوة طريق الرجال بأهازيج دكداكه:
“آن تاي جباي تو كمبره..
جلك تو كمبره..
ماي تو كمبره..
آي ينانا.. آي ينانا.. تو كمبره
فيجيبهم الرجال بصوت شجي: آونتي.. آونتي..
و من أغانيها الجميلة التي تأسر الألباب :
إي إي مرياح..
رب أتعمر ياح..
كوم إترلو إسراح..
إي إي إي إي مرياح..
إي إي إي إي ماح..
كل هذه الأغاني هي أغاني راقصة، يرقص عليها الرجال و النساء معا..
و من أغانيها التي يرقص عليها الرجال:
يا مولان عين إرجالي.. يا مولان عين إرجالي…
بعض رقصات “دكداكه” تحاكي الحيوانات في مشيتها و طريقة صيدها لفرائسها و انقضاضها عليها..
أغاني “دكداكه” هي مزيج بين لغات زنجية ( البمبارية ) و عربية ( الحسانية ..) و اللغة الإيزيرية ( السوننكية )..
يمارس السكان المحليون فن “دكداكه” للتعبير عن الفرح بقدوم أحدهم أو بزفاف أحدهم أو إحداهن..
و في صبيحة الزفاف تضرب دكداكه للعريس و أصحابه و يغنى بصوت رخم:
أحن لعريس أشحال إصباحو..
أحن لعريس أشحال أصباحو..
أشحال أصباحو..
أشحال أصباحو..
و أحيانا تضرب دكداكه بمناسبة الأعياد.. و في بعض الأوساط غير الولاتية و النعماوية بطلاق إحداهن أو خروجها من العدة…
قد تضرب “دكداكه” في غير وقتها مما ينذر بقدوم عدو غير مرغوب فيه ليتجمع رجال الحي لمعرفة الخطب أو الأمر الطارئ…
تختلف “دكداكه” من منطقة لأخرى فهي في النعمة أبطأ إيقاعا منها في ولاتة..
ذكرت بعض المصادر التاريخية أن فن دكداكه مستجلب مما يسمى حاليا ب أثيوبيا أو إيريتريا أو الحبشة قديما فهو عرف خاص ببعض قبائل القرن الإفريفي و يضرب للملوك في تلك البقاع…
أ. ملاي أمحمد ولد ملاي أدخيل… دراسة معدة عن “دكداكه”..
جدير بالذكر أن “دكداكه” لا تقتصر على منطقة الحوض فحسب..
لدى التيشيتيين دكداكتهم الخاصة بهم. و لدى الودانيين “دكداكتهم”..
وفي بعض الأوساط الآدرارية تسمى “بنجة”..
لبعض قبائل الأمازيغ جنوب المغرب و الجزائر و ليبيا و النيجر و حتى بعض قبائل السودان “دكداكهتهم” الخاصة بهم… مع بعض الاختلافات البسيطة…
و يؤكد بعض المؤرخين الذين تناولوا “دكداكه” دراسة و تحليلا.. أنها انتقلت بانتقال قوافل الحج و التجارة على طول الطريق الرابط بين البحر الأحمر مرورا بالنيجر و تيمبكتو ( أزواد ) و ولاتة وتيشيت و غيرهما من المدن… ( حوليات ولاتة و النعمة )..
“دكداكه” هي جزء من تاريخ المنطقة بل هي التاريخ.. لا يضرب طبلها إلا في جو من السكينة و الهدوء. فالذي يضرب طبل دكداكه لا يضربه إلا بعد أن تخفت الأصوات الجانبية أو تتلاشى و لا يضربه إلا بعد “لكو التصفاك”…
فقد كان آبه ولد إميسه يرفض ضرب طبلها إلا في جو من السكينة و الوقار…
دكداكه من التراث الشعبي الذي تجب رعايته و دراسته لاسهامه المباشر في دعم لحمة هذا الشعب و وحدته.
و إخراجه للجماهير و تعريفهم به هو إبراز لصورة توحيدية جميلة جمعت هذا الشعب بكل ألوانه و شرائحه مئات السنين و مازالت تجمعه حتى يوم الناس هذا..
إنها ثراء تاريخي و حافظ أمين لأحداث تاريخية تم تخليدها في أغاني و أهازيج شعبية شفوية عصية على الأندثار في حال تمت رعايتها. فهي بعد مضاف لإبعاد وطنية أخرى تجب المحافظة عليه و تطويره و إبرازه للآخر كبعد ثقافي يعكس صورة ناصعة عن مدى تمسك هذا الشعب بما يمثل وحدته…
إننا بهذه العجالة نكون ساهمنا ولو بشكل ضئيل في دراسة وصون هذه الأنماط المعرفية التاريخية من ترثنا خاصة و الثراث الإنساني عامة بغية إثراء ساحتنا الثقافية…
بقلم Saleck ould Inalla