نفحات من أيام معلمنا المقرئ محمد عبد الله ولد عبد الرحمان المشهور ب (طالبن) رحمه الله
بين كثبان (اترابْ مامَ)، و تلاع (البطحَ الشرڨية) ، مرورا بـ(صَنْڨَتْ ادّو) إلى لڨليڨ ،فـ(ظهرَت لمسيد) فـ(رحبة بارتيل)، إلى (دار طالبنَ )، كان للشيخ نزهات “رياضية” يعتادها خلال الأسبوع… وكان يصطحب معه في كل مرة واحدا من التلاميذ ليعرض عليه أحزابا من القرآن …
من حسن طالعي أنْ كنت من ذلك الجيل الأخير الذي كان يرافق (طالبن) في نزهاته الأسبوعية بربوع “ولاته”، ليتلو على أثره القرآن…
كان الشيخ في عنفوان قوته ، رغم أنه أربى على الستين ، لكنه كان رياضيا شديد الإعتناء بنفسه وبلياقته البدنية…
حين تتلو عليه خمسك اليومي ، وهو يمشي الخيزلَى بين تلك الربوع، يجعلك تشعر بإعياء شديد ؛ فتخرج الآيات منك منقطعة النفَس ، الواحدة تلو الآخرى، من شدة اللهاث… فلا تسترد أنفاسك، حتى يفاجئك بكلمته المعتادة ذات النبرة المتحدية : (مشِّ)… ولسان حاله يقول (إن كنتُ شارفتُ على الشيخوخة فمازلت أُغالب الفتيان في سرعة السير)
كان (طالبنَ) شديد المعرفة بالكتاب، وبمواضع المتشابه منه … ولم تكن (إيمرازَنْ القرآن) تعرف سبيلا إلى ذاكرته… لا تتجاوز كلمة ، ولا شكلة إلا ونبهك عليها في لمح البصر….
ولا زالت ترنّ في أذني “تصحيحة” لقنني إياها ،عند قوله تعالى (إن نشأْ ننزلْ عليهم من السماءِ آية فظلت اَعناقهم لها خاضعين) ؛ إذْ قرأت لفظة (آيَةً ) بالهمزة الخالصة، فقال لي بهدوء وكأنه يريد أن يحفر الكلمة في ذاكرة الفتى الصغير : (مِنَ السّماءِ يَايَةً)… أعادها مرتين مُبْدلا – رحمه الله – الهمزة ياء خالصة؛ تطبيقا لقول (بن بري في نظمه لمقرأ نافع ) ، في باب أحكام الهمزتين :
ثم إذا اختلفتا وانفتحتْ ** أولاهما فإن الاُخرى سُهلتْ
كاليا وكالواو، ومهما وقعتْ ** مفتوحة واوا وياء أُبدلتْ
وبما أن الهمزة في لفظة (ءاية) وقعت مفتوحة، وقبلها كلمة (من السماءِ) التي آخرها همزة مكسورة ، وجب – وفقا لقراءة نافع– إبدالها ياء… فتُقرأ (من السماءِ يَـاية).
ومنذ ذلك اليوم، ما إنْ أمر عليها حتى تتراقص في ذهني تلك اللحظات التربوية المباركة مع شيخي (طالبنَ)…
وذات ضحوة ، كنت أهرول وراءه على “ظهرة لمسيد” أعرض عليه حزب (ألف لام ميم صاد)، و عندما وصلت إلى قوله تعالى (الذين اتخذوا دينهم لهوا و لعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم)، هممت أن أعكسها (لعبا ولهوا) ، فبادرني منتهرا : (لهوا ولعبا)،… وكأنه كان ينتظر أن أعكس الكلمتين في الآية الكريمة… وما ذاك إلا من شدة خبرته في مواضع القرآن المتشابهة التي يقع فيها الطلاب.
كان لـ(طالبن) حنوّ ورقة بل وطرافة أحيانا مع صغار التلاميذ، وأذكر أن أحد الفتيان كان يلهو بحفْرِ غار في التراب، في حين أن الآخرين كانوا يقرأون ألواحهم بصوت عال. ظل الصغير يحفر ويحفر . لمحه الشيخ، فتغافل عنه… بعد هنيهة، جاءه الصغير وقال له (ماشِّ نشرب)، فأجابه : (اللا حاني حاسيك ايْجم)… كانت تلك العبارة إحدى (ديمينات) الشيخ – رحمه الله- ….
لم يكن طالبنَ ، مشتغلا بتعليم القرآن الكريم فقط، بل كان يشغل إمامة جامع المدينة… وحُقَّ بها وأهلها… ألم يقل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)؟ ولايزال صوته الندي وهو يتلو خطبة الجمعة ، يتردد الآن بين أساطين المسجد العتيق.
وعندما يدلهم الأفق ، وتقبع المدينة التاريخية في هزيع الليل، يكسر الصمتَ صوتُ الشيخ الشجي، وتلك الترنيمات العذبة المرتلة لآي القرآن ، فتكاد تنفطر أفئدة السامعين من الجيران… وتشع أنوار القرآن في أزقة و بيوت المدينة التاريخية…
تشعر بعبقرية الرجل وسيطرته على المقرإ حين تجلس إليه وهو يفسر أبياتا من نظم (بن بري على مقرأ نافع ) :
القول في المفتوح والممالِ ** وشرح ما فيه من الأقوالِ
أمال ورشٌ من ذوات الياء ** ذا الراء في الأفعال والأسماء
نحو رأى بشرى وتترا واشترى ** ويتوارى والنصارى والقرى
أو عند قول الناظم في باب ” فرْش الحروف” :
قَرَأَ وهْو وهْي بالإسكانِ ** قالونُ حيث جاء في القرآن
ومثل ذاك فهْو، فهْي، لهْوا ** ولهْي أيضا مثله ثم هْو ا
…
كان لـ(طالبن) ميعاد آخر… رفض جسده الطاهر كل ترياق، وأبَى إلا أن يرتجل عن صهوة جواده ليصافح الملائكة المقربين… وما هي إلا تنهدات هادئة وعميقة ، حتى انطفأت شمعة أضاءت دجى ولاته برهة طويلة من الزمان.
حين خروج جثمانه من داره، دفعني الفضول مع مجموعة من الصغار أن نقف وراء (بوتيك أڨّ) المجاور لـ(دار طالبن)؛ كي نشاهد الحشود وهي تحمل جسد الشيخ الطاهر على أكتافها . رأيناه مسجى في ثياب بيض ممددا على “صيدح لمسيد” … ولو كنا نستحضر الشعر آنذاك ، لاستنطقنا رائعة أبي الحسن الأنباري في رثاء ابن بقيّة البغدادي ، التي يقول فيها :
علوٌّ في الحياة وفي المماتِ ** بحقٍّ أنت إحدى المعجزاتِ
كأنـك قائـم فيهم خـطـيبا ** وكــلهـمُ قـيامٌ للصلاةِ
سمعت والدي (رحمه الله) وهو راجع من دفن (طالبن) ، يقول متنهدا – وتتردد في حلقه غصة من شدة الأسى والأسف على صاحبه – : ( الله يرحمُ، كان مطيبْ سوراتُ)
في ذلك اليوم من قيظ 1992، خيّمَ على ولاته جو مهيب … فلم تك ترى وجها إلا و بادٍ على أساريره الحزن، ويغشاه شيء آخر يمكن وصفه بالخوف مما قد يخبؤه المستقبل للجيل الجديد…
تتلمذ على (طالبن) جميع أجيال مدينة ولاته المولودين في الستينات والسبعينات والثمانينات…. وأغلب رجال ولاته الأحياء – ممن تربوا في المدينة- أخذوا كلهم القرآن عنه، رحمه الله .
مررتُ أوان صيفٍ من سنة 2014 ، في زيارة للمدينة… ثم دخلتُ دار طالبن، فوجدتها خالية… انبعث في قلبي إحساس ممزوج بالأسى والألم والشوق : الأسى على زمن ذهبي ولَّى ولن يعود، والألم لما آل إليه حال الأجيال التي جاءت من بعده، والشوق إلى رؤية وجه الشيخ المبارك…
خلال تلك اللحظات، رجعتْ بي الذاكرة أعواما إلى الوراء… أيام كانت الدار تحوي ما بين الأربعين إلى الخمسين طالبا من أبناء المدينة… وتراءت ما بين عينيّ جلسة (طالبنَ) على مقعده الفولاذي، وذلك السوط الأخضر الرفيع وهو معلق بإحدى ركائز المقعد…. والتلاميذ يتنافسون أيهم يصل بصوته الطفولي الحاد إلى أذن الشيخ الفضيل …
الدار – الآن- خاوية على عروشها، والتلاميذ كبَروا وارتحلوا عن المدينة… لا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزا. همت دموعي بالإنهمال، غير أني تماسكت…جال بخاطري بيت الشاعر:
وقفت بالدار لـأْياً ما أبـيّنها ** والدار لو كلمتني ذات أخبارِ
ثم تذكرت طلعة لأحد البيظان يقول فيها :
هذا الدهر اتْفُ بيهْ ** ما رَتْ عنُّ غدارْ
أُ مارتْ ما تور بيهْ ** حَلاوَ ما تَمرارْ
خَظتْ اعلَ دار اليُومْ ** اعـلَيّ يالقيوم ْ
شفتْ اڨُومْ التيدومْ ** لَمْسَوِّ كانْ الدار ْ
محروڨ اوْ عاد احْمومْ ** سبحانك يالقهار
مَعوَدْ حرّاڨَ اڨـومْ ** ماهُ فاهمْ لخبارْ
انتهضت ذات صباح، لأزور قبر الشيخ على ربوة غير بعيد من ” صدراية السلام عليكم” … تبركت به، و دعوت له ثم تلوت الفاتحة على روحه الطاهرة… وقفلت راجعا، فبدأ الشعر يتراقص في رأسي . كان لا بد أن أنفث عني ذلك السم…
فكتبت هذه السينية ، اعترافا مني بحق ذلك الشيخ الكريم :
على الرَّمس رمسِ الشيخ فابْـكِ بلا بَخْـسِ *** وقَـلَّ لحقِّ الشيخ دمعٌ على رمسِ
تبـرّكْ به وامسحهُ وادْعُ مـناجـيا *** لتـظفـرَ بالحسنى وتـنـجُ من النحـسِ
حَـفـيٌّ وفـيٌّ صــالح مـتعـفـفٌ * ** نـقيّ من الأوزار والرّيْـنِ والرجـسِ
عـليـك سلام الله ما عَـجّ قـارئ *** يرتل قــرآنا إلى مغـــرب الشمـــس
غرستَ كتاب الله إذْ نـحن صبية *** بـأذهانـنا، أكـرِمْ بذلك مـن غـرسِ
لقد ظل فـينا جـرح موتك نازفـاً *** كـأنك يا “طالبـنَ” فـارقــتَ بالأمـس
ولو كان عـزرائيل يـقبل فـدْيـةً ** من الموت، أفـديـناك بالـمال والنـفـسِ
سيـبـقى مدى الأزمان ذكرك حاضرا ** وإن ننس لا ننسى عطاءك في الدرس
فما أحسن الأمداح في منتدى “الشفا” ** وما أعذب القرآن تتلوه في الخَـمـسِ !
(ولا نَصَّ كلّا حُبَّ) ينساب سائغا ** إلى الروح – إلا منك – والعقلِ والحسِّ
فـأسـكـنْـهُ يا رحمن صحبة والدي *** بأعلى جِنان الخـلْـد في حضـرة الـقـدْسِ
وألحقْ بهم أمّي وخالي ومن لهم *** حقوق من الأعمام، والأهل، والجنسِ
وصلِّ أيا رحمن مـسيا وبكرة *** عــلـــى أحـمد الـمبعوث للـجن والإنــسِ
رحمك الله ياطالبنَ ، يا شيخنا المعطاء، وجعل دار النعيم مثواك… ورفعك بكل حرف علمتناه درجة من درجات الجنة، إلى أعلى عليين. وارحم آباءنا وأمهاتنا وأعمامنا وأخوالنا وجميع المسلمين.
الجملة الواقعة بين قوسين في صدر البيت العاشر اقتبستها من متن الشاطبية في القراءات السبع. استعملها الشاطبي في الإشارة إلى الخلاف بين القراء في الوصل والسكت والبسملة بين السورتين . فقال :
ولا نص كلا حُبَّ وجه ذكرته ** وفيها خلاف جيده واضح الطلا
وفي البيت تقديم وتأخير يعرفه كل من ذاق طعم الشاطبية، ولا داعي هنا للخوض فيه….واستعرتها لمعنى آخر أترك للقارئ الحرية في تأويله كما يشاء…
بقلم عبد الله ولد المرواني