لعبة الخربقة في تونس.. ملاذ كبار السن للتسلية والترفيه
مرتديا عمامته البيضاء، يجلس العم صالح قراوي القرفصاء مع رفاقه في مدينة ماجل بلعباس التابعة لولاية (محافظة) القصرين (وسط غرب تونس) لمباراة خصومه من شيوخ المدينة الذين لا يتوانون عن ممارسة “الخربقة” أكثر اللعب الشعبية انتشارا لدى كبار السن، لتسلّيهم وترفه عنهم.
ووسط حلقة صغيرة من الشيوخ، يقوم العم صالح، الذي تجاوز العقد الثامن من العمر، ببسط التراب بيديه المرتعشتين، ثم يغرس بإصبعيه السبابة والخنصر في كثيب رمل متوسط العلو، ويرسم “الخربقة” بحركة دائرية، ليكوّن 49 خانة (أي حفرة صغيرة) تشبه قواعد اللعبة فيها قطع الشطرنج.
وتتكون هذه اللعبة من 24 “كلبًا” (أي الحجارة أو الحصاة التي تكون من لونين مختلفين) لكل لاعب، وهي عادة ما تُلعب بالحجر والأصداف ليسهل تمييزها بين اللاعبين.
ولا يحلو لعب “الخربقة” دون شرب الشاي الذي يتم إعداده على موقد من الفحم يزيد من جو المنافسة، ويخفف من الملل والروتين اليومي.
قوانين اللعبة
وأمام الدكاكين القديمة والحدائق، يفترش محبو اللعبة من الشيوخ الأرض، ويقضون وقتا من يومهم الطويل في الاستمتاع وتبادل الأحاديث والنكات.
لكن جوّا من الجدية يفرض نفسه على اللاعبين الذين يريد كل واحد منهم تحقيق الفوز، والعم صالح وخصومه منهم، إذ يقضي كل لاعب وقتا طويلا للتفكير قبل تحريك أي حصاة، وسط تشجيع متقطّع من الحاضرين، ليتركوا للمتبارزين مساحةً من التفكير والتركيز، إذ لا صوت يعلو فوق “كش كلبك مات” بين هذه الجلسات.
ويخشى الكثير من الشيوخ العم صالح، فهو الأكثر ذكاء وقدرة على هزم خصومه في هذه اللعبة، إذ بقدر إلمامه بقوانين هذه اللعبة وتقنيتها، له أسلوبه الخاص في اللعب وتعمير الخانات (الحفر) وإلحاق الهزيمة بالخصم، في وقت وجيز، رغم أنّ المباراة الواحدة أحياناً تتجاوز مدتها الساعة.
وحول طريقة لعب “الخربقة” يوضح العم صالح أنّها تتم أولًا عبر ملء الحفر بحجارة كلا اللاعبين التي يسمونها “كلاب” حتى تعمر كافة الخانات التي يبلغ عددها 49 خانة، ما عدا المربع الأوسط، ثم تبدأ اللعبة حيث يقوم كل لاعب بتحريك “كلابه” وكل “كلب” يقع بين “كلبين” للخصم يصبح ميتًا.
وبابتسامة تعلو محيا وجهه الذي ملأته التجاعيد، يستمر قائلا “هذه اللعبة تنتهي حين يتمكن أحد اللاعبين من محاصرة قطع حجارة (كلاب) المنافس، ويجعله غير قادر على التحرك بين المربعات (الحفر)” مؤكدا أن الفائز هو من يتبقى له أكثر عدد من القطع، وينسحب الذي لم يبق له إلا قطع قليلة.
الترفيه والتسلية
يفك صالح القراوي رباط عمامته، ويضعها على ركبتيه، ووسط حيرته يواصل تفكيره فيضع يديه على وجهه تارة، ويحرّك نظاراته الطبية تارة أخرى، ويقول للجزيرة نت: قبل أن يحرّك المنافس أي حصاة (كلبه) يحسب ألف حساب موضحا أن كل حركة تتطلب الكثير من التفكير والتركيز “وكل خطأ وحركة غير مدروسة تكون نهايتها الخسارة”.
ثم يجول بصره مربعات اللعبة، ويغمض عينيه ويعض على شاربيه، وكأنه يتحسس خدع خصمه في اللعبة ويقرأ ردة فعله، فهو يرسم ويشكل الحجر (الكلاب) في مكانها في ذهنه، قبل وضعها على (الحفر) خانة اللعبة، متحسبا لكل حركة استباقية أو خدعة، وسط حذر وانتباه شديد من اللاعبين.
دون أن ينبس بكلمة يرفع العم صالح إصبعيه ويطلب كأسا من الشاي لمنافسه، ثم يقول مستهزئا “لقد بدأ يفقد تركيزه، أسكبوا له قليلا من الشاي قبل أن يخسر المنافسة” ليبتسم بعدها ويعلق “كش كلبك مات” في إشارة إلى أنه حاصر كلب خصمه من كل الجهات، وليس عليه إلا الانسحاب.
شيوخ هذه المناطق المهمشة يجمعون -في حديثهم للجزيرة نت- على أن لعبة “الخربقة” بمثابة الفرصة التي يجدد خلالها الشيوخ الالتقاء، لتنظيم مباريات بصفة دورية فيما بينهم، ويقول العم محمد صالح العمامي إنّ هذه اللعبة وسيلة ترفيهية توارثها الشيوخ عن آبائهم وأجدادهم القدامى.
ويضيف “من أجل هذه الجلسات والمباريات أقطع يوميا مسافة كيلومترات عديدة، للهروب من الروتين والتعب، وللجلوس مع الرفاق، فهذه اللعبة ملاذنا الأخير لحل مشاكل وضغوط الحياة، فهي خير ونيس يخفف تعبنا” مستدركا أنّ لعبها لا يرتبط بمناسبة معينة، لكن هزيمتها مُرة تعكر مزاج الخاسر فيها.
تراث الأجداد
وبالرغم من صعوبة تحديد تاريخ ظهور “الخربقة” يرجح المؤرخون أن تاريخ نشأتها يعود إلى عهد البايات، الذين ورثوها عن الهلاليين، لتحتل سلم الألعاب الشعبية بين الشيوخ، غير أنّها مهددة بالاندثار، حيث لا يعطيها شباب اليوم قيمة، لاسيما مع ظهور الألعاب الإلكترونية.
ويقول الباحث والأستاذ الجامعي في الإنثروبولوجيا والتراث اللامادي عماد صولة للجزيرة نت “الخربقة” تندرج ضمن التراث الثقافي اللامادي في باب الرياضة والألعاب الفكرية التقليدية، التي تعتمد على العمل الذهني والتفكير في عملية تستخدم مبدأ الحساب والتوقع.
ويؤكد صولة أن هذه اللعبة ما زالت تستخدم أكثر في الجنوب التونسي وأغلب الأرياف، لافتا إلى أنّها تنتشر أكثر في بلدان المغرب العربي، فيطلق عليها في ليبيا “السيزة” وفي الجزائر “الخريبقة” وفي بلدان الخليج العربي “الشيزة “أو “السيجة”.
من جهته، يقول الباحث المختص في التراث عبد الستار عمامو، للجزيرة نت، إنه لا بد من حفظ هذه اللعبة في الذاكرة الشعبية التونسية، حتى تبقى منحوتة في الذاكرة الشعبية لدى التونسيين، من خلال تقنينها ورسمها في ورق يشبه قطعة الشطرنج مع المحافظة على قوانين لعبها.
حين بدت الشمس تميل نحو الغروب، نفض الشيوخ ملابسهم من غبار الأتربة، ونهضوا حين استحالت مواصلة شغف اللعبة، بسبب الظلام، متوعدين بعضهم بالثأر، ومواصلة اللعب اليوم التالي، بينما ظلت صورهم تملأ المكان، وصدى صوتهم يتردد بين جدران الدكاكين “كش كلبك مات”.