في أي العصور نعيش؟
المواد هي عصب الحضارة.. كانت هي دليل التطور الحضاري.. استخدمها الإنسان وواجه بها الطبيعة ليجد له مكانًا في الدنيا الواسعة.. فكيف تطورت المواد وصنعت الحضارات على مر التاريخ.
نحن نتفاعل مع الدنيا من حولنا بمكوناتها الطبيعية والصناعية والاجتماعية، ونحاول أن نتواءم مع البيئة المحيطة بنا، ففي البيئة الطبيعية توجد البحار والأنهار، والصحاري والجبال، والوديان والسهول، والكائنات التي تحيا في كلٍّ منها، وفي البيئة الصناعية والتكنولوجية توجد الأنشطة الإنتاجية والخدمية التي تتفاعل مع مكونات البيئة الطبيعية، وتؤثر عليها وعلينا، وفي البيئة الاجتماعية تعيش شعوب وجماعات مختلفة بعقائدها الراسخة وثقافاتها المتباينة وتقاليدها المتنوعة، يتفاعل الإنسان مع الدنيا المحيطة به، يحاول أن يجد لنفسه مكانًا بين مكونات تلك البيئات الطبيعية والصناعية والثقافية المتداخلة.
الإنسان وعصور المواد القديمة
في محاولة الإنسان الدؤوبة للتوافق مع الطبيعة والسيطرة عليها يسجل التاريخ محطات التطور الحضاري للجنس البشري؛ ففي مطلع التاريخ لم يجد الإنسان إلا مكونات البيئة الطبيعية من حوله يستخدمها لتعينه على الحياة، فضفر الحشائش ليصنع حبلًا يربط به فروع الأشجار ليوفر المأوى، واستخلص ألواح الأخشاب من الأشجار المحيطة ليصنع منها المسكن، ومن الحجارة دعم مسكنه، وأدرك أن بعض الصخور يمكن تهذيبها لتنتج حوافَّ حادة، فصنع منها أدوات مفيدة للزراعة والصيد وأسلحة الدفاع.
وسجل الإنسان أحداث التاريخ المتعاقبة على الأحجار والصخور، فكتب عليها ليسجل المعاهدات، وأبدع بالنقش عليها والرسم والنحت ليصور المعارك والأحداث، وصنع التماثيل ليجسد صور الحكام والأبطال، فوثق الحجر فصلًا من تاريخ البشر يمتد منذ مليونين ونصف مليون عام حتى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.
أصبحت المواد هي الشاهد على تطور الحضارة عبر العصور، فكان العصر الحجري هو الأول بين عصور المواد والهندسة التي شهدتها الإنسانية، واقتصر عمل المهندس الأول في ذلك العصر على تشكيل المواد الطبيعية وصناعة الأدوات والمنتجات منها.
وتوالت اكتشافات المواد، فتعرف الإنسان على المعادن من حوله، فهاهو الذهب يبرق في عروق الصخور، واستخلص النحاس ليصنع الأواني والحاويات، ولكنه وجد أن سبك المعادن معًا يعطيها خواصَّ أفضل تساعده في السيطرة على الطبيعة، فصنع الإنسان القديم سبائك من النحاس والقصدير ليحصل على البرونز الأقوى من الحجارة، وسيطرت المادة الجديدة على صناعة الأدوات والأسلحة والتماثيل، وارتبط العصر فيما بين 3300 –1200 قبل الميلاد بتلك المادة الجديدة وسُمِّي بعصر البرونز.
وجاء عصر الحديد تاليًا لعصر البرونز رغم أن الحديد أكثر الفلزات وفرةً على سطح الكوكب، وكان معروفًا في العصر البرونزي ولكنه كان أقل جودةً واستخدامًا، وحين نضبت موارد القصدير اللازم لصنع البرونز، ساد الحديد خاصةً حين روَّض الإنسان النيران وسيطر عليها واستطاع أن يتعامل مع الحديد، فنحن نحتاج إلى درجات الحرارة العالية لاستخلاص الحديد من خاماته وسبكه وتشكيله، وتمكَّن الإنسان حينئذٍ من الحصول على سبائك الحديد بجودة عالية، واستمر عصر الحديد عبر السنين 1200 قبل الميلاد إلى 100 بعد الميلاد.
المواد والحضارة
هكذا ارتبط تطور البشرية ارتباطًا وثيقًا باستخدامنا للمواد والأدوات، فرغم تسجيل التاريخ لتحولاتنا اللغوية وتفاعلاتنا الاجتماعية وإنجازاتنا الاقتصادية، إلا أن مراحل ما قبل التاريخ الرئيسية لم تُنسب إلى هذه التطورات ولكنها سميت تبعًا للمواد التي ساد استخدامها في العصور القديمة، فتوالت عصور الحجارة والبرونز والحديد التي غيرت في أنماط حياتنا الاجتماعية بل وحتى السياسية، فتذكر كتابات الأقدمين أن البرلمانات نشأت مع عصور الحديد، ويفسر المؤرخون ذلك بأنه قبل استخدام الحديد كان السلاح يُصنع من البرونز غالي الثمن، فكان امتلاكه قاصرًا على الأعيان والأغنياء والإقطاعيين، فاستعبدوا العمال والأجراء بقوة السلاح، وحين ساد استخدام الحديد وصُنع منه السلاح رخيص الثمن، وأصبح في متناول الأجراء والفقراء إلى جانب الأغنياء، كان لا بد من إيجاد صيغة جديدة للتفاهم وإنجاز الأعمال والمهمات، فتم الاتفاق على أسلوب التحاور والتفاهم، فجاءت بشائر الديمقراطية بالانتخابات ونشأت البرلمانات!!
محطات بينية متداخلة
رغم أن عصور المواد التقليدية تطورت من الحجارة إلى البرونز إلى الحديد، إلا أنها مرت بمحطات بينية عديدة تخللت عصورنا التقليدية، فلقد تداخل الفخار مع العصر الحجري واستُخدمت المواد العضوية مثل القرون والعظام، ولكن سُمي العصر على اسم الحجارة، فهي المواد الأكثر مقاومةً للتلف في ذلك الوقت.
وتداخل عصر الزجاج في حياتنا منذ القدم، حين ضرب البرق الرمال لأول مرة؛ إذ يرجع تاريخ الزجاج إلى نحو 3500 عام قبل الميلاد، عندما بدأ المصريون وبلاد ما بين النهرين في إنتاجه على شكل خرز للزينة، وعرفنا فيما بعد أن الزجاج مادة صلبة غير متبلورة، تم تصنيعها وتشكيلها بأطوار مختلفة ولكنها تنتج جميعها من العملية الأساسية نفسها وهي ذوبان ثاني أكسيد السيليكون (الرمل) عند درجة حرارة عالية وخلطها مع إضافات مختلفة (مثل كربونات الصوديوم أو الصودا) ليشكل الخليط الساخن المادة الجديدة وتنتج خصائص متميزة من حيث اللون والقوة ومقاومة الكيماويات، ولعل أهم ميزة للزجاج في الاستخدام اليومي هي أنه يمكن إنتاجه ليكون شفافًا للضوء، وشملت استخداماته المألوفة الزجاجات والنوافذ والعدسات، وهناك بطبيعة الحال الطرق الأخرى التي من خلالها يتم استخدام الزجاج ليشمل المعدات العلمية والطبية ويمتد إلى الألياف الضوئية، ومستلزمات الطاقة المتجددة.
في عصور المواد القديمة والحديثة تداخل الحديد معنا، فكان بديلاً راسخًا لسبائك النحاس، وأصبح الفولاذ اليوم إحدى أكثر المواد التي يصنعها الإنسان وفرةً على هذا الكوكب، والفولاذ سبيكة تتكون بشكل شبه حصري من الحديد (بنسبة تصل إلى 99 في المئة)، بينما يضاف الكربون (المكون الثانوي) بنسبة تصل إلى 2 في المئة من حيث الوزن فيؤدي ذلك إلى زيادة قوة شد الحديد، كما يُسهم في زيادة الصلابة ليصبح الفولاذ (بعد التوسع في تصنيعه في منتصف القرن التاسع عشر) إحدى اللبنات الرئيسية في بناء العالم الحديث؛ إذ امتدت الجسور لتعبر الأنهار، وصبت شبكات السكك الحديدية عبر القارات، وبُنيت مدن عمودية على شكل ناطحات السحاب.
ولحق الألومنيوم بعصور المواد نظرًا إلى كونه من المعادن الوفيرة في القشرة الأرضية، ولكنه نادرًا ما كان يظهر بشكل طبيعي في شكل معدني نقي، فهو حبيس كيميائيًّا في أنواع متعددة من الخامات المختلفة، وصار الألومنيوم ثاني أكثر المعادن استخدامًا في العالم (بعد الحديد)، فهو المادة المفضلة عند الحاجة إلى معادن منخفضة الكثافة، يمتد استخدامه من الطائرات ومكونات الآلات إلى أواني الطهي وعلب المشروبات.
عناصر الطبيعة وعلم المواد
تطورت عصور الحضارة والتكنولوجيا حين تطورت علوم الكيمياء وأدواتها، فاكتُشفت العناصر المتنوعة، وصُنفت في جداول دورية وفقًا لأوزانها الذرية وتراكيبها الإلكترونية وخصائصها الكيميائية والفيزيائية، وتعلم الإنسان كيف يصنع أبجديةً لانهائية من المواد حين تعلم كيف يتشابك بعض العناصر مع بعض.
أصبح علم المواد مجالًا جديدًا للدراسة، فهو يتناول العلاقة بين تركيب المواد (على المستوى الذري والجزيئي) وخواصها المتنوعة (الكيميائية والفيزيائية والهندسية) وطرق تصنيعها وتشغيلها (الهندسية والفنية)، فمهَّد ذلك العلم الحديث الطريق للدراسة المنهجية للمواد، وكان هجينًا من علوم الكيمياء والفيزياء والهندسة.
عصور المواد الحديثة
تطورت عصور المواد فجاءت المواد التي صنعها الإنسان وقام بتركيبها لتتوافق مع متطلبات العصر، فجاء عصر المواد المتبلمرة أو البلاستيك، حيث تترابط العناصر الهيدروكربونية (في الأغلب) مع غيرها من العناصر (أحيانًا) لتكون مادة البلاستيك التي سادت العصور الحديثة، فهي مادة ميسورة الثمن منخفضة الكثافة متنوعة الخواص سهلة التصنيع والتشكيل، تراوحت استخداماتها من لعب الأطفال إلى مركبات الفضاء، ودخلت المواد الحيوية في تصنيع أسنان الفك وعدسات العين وصمامات القلب، بل القلب نفسه ليكون اصطناعيًّا، المشكلة أن إنتاج البلاستيك المتزايد مثَّل عبئًا بيئيًّا، فنحن نصنع من النايلون فقط كل عام ما يكفي لتغليف الكرة الأرضية عدة مرات، كما أن 40% من البلاستيك الناتج يُستخدم في التعبئة والتغليف، مما ينتهي به إلى النفايات التي تلوث البيئة، فقام الكيميائيون وعلماء المواد بتطوير منتجات من البلاستيك المتوافق بيئيًّا، وهذه قصة طويلة قد نسردها في حديث قادم.
جاء عصر السيليكون في أواخر القرن العشرين ممتدًّا إلى أوائل القرن الحادي والعشرين ليؤثر في اقتصاد العالم الحديث، إذ إن السيليكون مرتفع النقاوة أساسي في صناعة أشباه الموصلات والترانزستور وشرائح الدوائرالمتكاملة، والتي هي المكونات الأساسية في صناعة الأجهزة الإلكترونية مثل الحواسيب والهواتف المحمولة والتجهيزات الخاصة بعصر المعلومات.
ونحن اليوم نعيش عصر تكنولوجيا النانو، إذ نعمل على دراسة معالجة المادة على المقياس الذري والجزيئي -النانومتر الذي يبلغ جزءًا من المليون من الملليمتر، وتتنوع مجالات تكنولوجيا النانو من أشباه الموصلات إلى طرق حديثة تعتمد على التجميع الذاتي الجزيئي؛ إذ يمكن أن تؤدي إلى الظواهر النانوية وتتضمن خواص كهرومغناطيسية وبصرية ودرجة انصهار جديدة للمادة عندما تكون في حجم النانو، مما يتيح تطبيقاتٍ فريدةً للمواد.
حيرة المؤرخين
اختلف الناس حول تسمية العصر الحديث، هل هو عصر البلاستيك (نسبةً إلى المادة الأكثر استخدامًا وانتشارًا في العصر الحديث)، أم عصر السيليكون (نسبةً إلى المواد الإلكترونية التي واكبت التحول الرقمي في الزمن الحديث)، أم عصر النانو (نسبةً إلى تكنولوجيا النانو التي مكَّنتنا من التحكم في المواد على المستوى الذري)؟
احتار المؤرخون، فالعصر الحديث هو عصر المواد المتنوعة التي صنعها الإنسان ليواجه بها متطلبات الزيادة السكانية وشح الموارد وتغير المناخ، إنها المواد الجديدة التي تحمل الناس إلى الفضاء، وتصل بين الناس فيتابعون الأخبار لحظيًّا في كل جوانب الدنيا، ويتواصلون بالهواتف والحواسيب والمواد الذكية، وهي المواد الحيوية التي تقدم الخدمات الصحية فتستبدل التالف من أعضاء الجسد العليل وتستكمل الأطراف المبتورة.
تنوعت المواد وتعددت حين أصبح الإنسان قادرًا على تركيب العناصر المتفرقة في جدول العناصر معًا، خاصةً حين مكَّنته تكنولوجيا النانو من التحكم في التفاعلات على المستوى الذري (بمسافات تبلغ جزءًا من المليون من الملليمتر).
يقول البعض إننا نعيش عصر المواد المخلقة، فحين نتأمل ما لدينا في الجدول الدوري للعناصر، فإن تراكيب المواد الجديدة تتعدد، دعني أسألك كم عدد الكلمات التي نستطيع صياغتها من بضعة وعشرين حرفًا هجائيًّا من حروف اللغة؟ وبالقياس كم من المواد نستطيع تخليقها وتركيبها من أبجدية العناصر التي تتجاوز المئة؟ ما رأيك يا عزيزي القارئ، يا ترى في أي العصور نعيش؟
المصدر : https://www.scientificamerican.com/