السماع.. موسيقى مغربية تزداد شبابا مع مرور الزمن
يحظى “السماع” باهتمام الجمهور العربي، خاصة في المغرب، وقد أنشئت العديد من الجمعيات التي وضعت نصب أعينها الاهتمام به وإقامة المهرجانات سعيا لنشر ثقافة السماع والمدائح النبوية بين مختلف الشرائح.
ويعد مهرجان “سماع الرباط” -الذي أقيم في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي- واحدا من التجليات المتميزة لذلك الاهتمام، وتولت جمعية الأصالة لفنيْ المدائح النبوية وموسيقى الآلة تنظيم المهرجان احتفاء بفن السماع منذ أكثر من عقد.
جمع المهرجان في دورته الأخيرة فرقا مغربية في فن السماع، وذلك في لقاء فني مباشر مع محبي هذا التراث الفني الروحي الذي ظهر في المغرب منذ قرون وحافظ عليه عشاقه وتناقلوه جيلا بعد جيل، لكن ما هو هذا الفن؟
فن السماع
يعرّف كتاب “معلمة المغرب” السماع بأنه أحد أنماط الموسيقى المغربية، ويراد به إنشاد القصائد والمولديات على طبوع (أنغام) الموسيقى الأندلسية، مثل البردة والهمزية للإمام البوصيري والقصيدة البغدادية لابن رشد وقصيدة المنفرجة لابن النحوي.
وتندرج هذه القصائد -حسب المصدر نفسه- ضمن الصيغ الغنائية التي ينشدها المسمّعون من رجال الزوايا دون استخدام الآلات الموسيقية.
ويرى رئيس جمعية الأصالة محسن نورش أن السماع هو ترتيل الأشعار الدينية الصوفية وفق طبوع وأنغام، وبالاعتماد على الأصوات والحناجر من أجل غايات روحية ودينية وتربوية.
ويوضح نورش في حديثه للجزيرة نت أن السماع يرتكز أساسا على الشعر الصوفي بأغراضه المتنوعة من ذكر وابتهال وتوسل ومدح النبي الكريم، إضافة إلى الأشعار الصوفية التي تتغنى بالحضرة الإلهية والرقائق والحقائق والإشارات الصوفية.
ويشير إلى أن فن السماع نشأ في الزوايا، وفيها تطور ومنها انتشر، حيث تنافس مريدو هذه الزوايا في نظم الأشعار الصوفية وأدائها.
ويضيف نورش “ما يميز السماع أنه يؤخذ بالتداول والتراتب وبالعنعنة، أي أن أساليبه وطرق أدائه تبقى واحدة لا تتغير، فهناك الإيقاعات الخمسة المعروفة في موسيقى الآلة، وهناك الطبوع والأنغام”.
ظهوره وانتشاره
تشير المصادر التاريخية إلى أن فن السماع ظهر في العهد الموحدي خلال القرن الـ13 عندما استحدثت عائلة “العزفيين” في مدينة سبتة عادة الاحتفال بالمولد النبوي، وبدأت منذ ذلك الحين بوادر الاهتمام بالسماع كفن غنائي قائم بذاته.
وجاء في “معلمة المغرب” أن كبير هذه العائلة أحمد بن محمد المتوفى سنة 1236 ميلادية ألف كتاب “الدر المنظم في مولد النبي المعظم”، وأكمله بعده ابنه أبو القاسم المتوفى عام 1279 ميلادي.
وبعد أن أكمل الابن كتاب أبيه بعث نسخة منه إلى الخليفة ما قبل الأخير لدولة الموحدين، مشيرا عليه بإحياء هذه “البدعة الحسنة” كما وصفها، فصار الخليفة يحيي ليلة المولد النبوي في مراكش في احتفال كبير يحضره المنشدون والمسمّعون بشكل خاص.
ويشير أحمد بن خالد الناصري مؤلف كتاب “الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى” إلى ظهور نوع جديد من الغناء أواخر عهد الموحدين عرف باسم “السماع” تولع به خلفاؤهم، ومنهم الخليفة المرتضى الذي كان من أواخرهم.
وورد ذكر السماع في شعر ابن المحلى السبتي، إذ قال في إحدى قصائده “إذا هز أرباب السماع تواجد.. فحظي منه رفدة وصياح”.
ويوجد لفن السماع اتجاهان في المغرب، أحدهما يعكس طريقة الزاوية الفاسية، والآخر هو اتجاه رباطي يعكس طريقة الزاوية الدلائية.
وحسب كتاب “معلمة المغرب”، يستمد الاتجاه الأول أصوله من كتاب “استنزال الرحمات” لمؤلفه محمد العابد بن سودة، وتقوم هذه الطريقة على تقسيم البردة إلى أقسام، ينشد القسم الأول منها على طبع موسيقي معين، وتنشد بعده جملة من مقطوعات شعر المديح على نفس الطبع، ثم يتم التحول إلى إنشاد القسم الثاني وملحقاته من أشعار المديح على طبع آخر، وهكذا تتعاقب أقسام القصيدة وملحقاتها وتتعدد بتعددها الطبوع إلى نهاية الحصة الغنائية.
أما طريقة الاتجاه فتقوم على تقسيم القصيدة إلى أقسام، وبعد كل قسم جملة من أشعار المديح، غير أن إنشاء هذه الأقسام وملحقاتها يجري على طبع واحد إلى نهاية الفقرة الغنائية، ويبدو هذا الاتجاه أكثر التصاقا بتقاليد أداء النوبة في موسيقى الآلة، حيث يجري العمل بوحدة الطبع من بدايتها حتى نهايتها.
غير أن التيارين شملهما بعض التغيير اليوم، ليتبنى المسمّعون نهجا جديدا يعتمد على التجول عبر طبوع الموسيقى الأندلسية، بل إنه يتجاوزها إلى استخدام طبوع أنواع موسيقية أخرى.
من الزوايا إلى المهرجانات
كان للزوايا فضل كبير في تخريج منشدين مهرة في فن السماع، إذ تنافست في نشر هذا الفن والحفاظ على تقاليد أدائه.
يقول رئيس جمعية الأصالة “إن الشعراء المتصوفة أسهموا بشكل جلي في إغناء وإثراء الشعر الصوفي، وأيضا فن السماع والمديح”.
ويؤكد أن السماع نشأ في الزاوية، وشهد انتشارا أكبر في العهدين المريني والسعدي ثم العلوي، ويشهد حاليا طفرة مهمة من حيث الأداء واعتماد المعازف المصاحبة له.
من جهته، يشير أحمد السليماني رئيس جمعية دار السماع بتازة إلى تمازج فن السماع من خلال الخزان الأدبي الغزير لقصائد كبار شعراء الصوفية وأزجالهم مع مستعملات طرب الآلة وطبوعها وإيقاعاتها.
ولفت في حديث مع الجزيرة نت إلى أن الزوايا الصوفية حافظت على تقاليد هذا الفن وأضافت عليه ميازين معينة، وساهمت في انبثاق أنساق خاصة بكل منطقة، لتتشكل إنتاجات محلية وبعض أشكال فن السماع المتفردة عن غيرها في مناطق أخرى من المغرب.
ويؤكد أن الزوايا حافظت على هذا الموروث الحضاري والتراث الشفهي المغربي اللامادي، غير أن تأسيس جمعيات مدنية جعل هذا الفن يخرج من حضن الزوايا إلى المسارح والمنتديات والمهرجانات.
وأضاف أن الناشطين المدنيين تنافسوا لتقريب هذا الفن من المتذوقين والمولعين به، مشيرا في هذا الصدد إلى أن الجمعية التي يرأسها لا تسعى فقط للحفاظ على هذا التراث، بل تقديمه بطريقة تليق بسموه ومبادئه وبكل ما يتضمنه شعره من قيم وحقائق.
وأضاف “نعمل دائما على إثراء البيوت ووسائل التواصل الاجتماعي والإذاعات والقنوات بعذب الألحان واختيار الكلم، ونعمل على تهيئة وتدريس هذا الفن للناشئة وتقديمه بطريقة يتقبلها الكبير والصغير”.
ويرى محسن نورش أن الإقبال على هذا الفن -سواء في أماكن تلقينه أو في المهرجانات وفضاءات عرضه- يدل على أنه بخير وما زالت مكانته محفوظة.
أول مدرسة سماع
تعد مدينة تازة (شمال شرق) من أهم مراكز فن السماع بالمغرب.
وتأسست في هذه المدينة جمعية دار السماع التي يرأسها أحمد السليماني سنة 2000، وهي جمعية ثقافية فنية تعنى بفني المديح والسماع والفنون التراثية المجاورة على مستوى الإنشاد أوالتلقين، كما تعنى بالبحث في الحقل المعرفي الصوفي عموما.
وحسب السليماني فقد أطلقت الجمعية أول موقع إلكتروني متخصص بهذا الفن، طرحت نسخته الأولى سنة 2009، ويضم جملة مقالات معرفية وأبحاث علمية، إضافة إلى خزانة صوتيات ضخمة ومكتبة فيديو.
وعملت الجمعية على تأسيس مركز ثقافي وفني أطلقت عليه اسم “دار السماع”، وهو أول مدرسة في البلاد متخصصة في تعليم هذا الفن للناشئة.
وفي هذا المركز احتضنت الجمعية عدة مجموعات فنية إنشادية وموسيقية على رأسها “مجموعة دار السماع” الذائعة الصيت وجوق أحمد التازي لبزور للموسيقى الأندلسية وكذا مجموعة منشدات دار السماع.
وبعد تازة، تم تأسيس دار السماع بناني بفاس، وفي بعض المدن الأخرى، وما زال العمل مستمرا لتعميم هذه التجربة في أنحاء المملكة حسب السليماني.
ويطمح الفاعلون المدنيون إلى تقريب هذا التراث الفني الروحي لمختلف فئات المجتمع، ونقل الرسالة التي حملوها وتلقوها عن معلميهم لأجيال لاحقة.