ثورات الصناعة والحضارة.. وماذا بعد؟

هل نحن في حاجة إلى مزيد من تطورات العلوم والتكنولوجيا.. أم ثورة في القيم والأخلاق تعمل على مجابهة الأنانية والجشع والظلم وحب التسلط؟

نعيش على سطح هذا الكوكب ونستكين، نستخدم طبيعته وموارده لتعيننا على العيش والبقاء، ونحاول أن نصنع الطفرات العلمية والتكنولوجية التي تحسِّن من جودة الحياة، قام الإنسان عبر السنين بثورات صناعية وتكنولوجية متعددة ليحافظ على الحياة ويتمكن من السيطرة على أنواء الطبيعة وتحسين ظروف المعيشة، وتم تعريف الثورات الصناعية بأنها ظهور تكنولوجيا جديدة وطرق مبتكرة لرؤية العالم من حولنا والتعامل معه، مما يقود إلى تغييرعميق في البُعدين الاقتصادي والاجتماعي.

يسجل التاريخ بعضًا من تلك الثورات التي حدثت على مر الزمان، فهناك أربع ثورات صناعية أجمع المؤرخون على أنها غيرت مجرى حياة الناس، وأسهمت في تغيير وقائع الحضارة الإنسانية. والمثير أن نعلم أن إرهاصات تلك الثورات الصناعية حدثت في مطلع التاريخ في مدينة الإسكندرية في مصر القديمة قبل نحو ألفي عام، حين قام العالم هيرون السكندري بالدخول إلى عصر البخار وابتكر أول آلة بخارية!!

عاشَ هيرون في القرنِ الأوّل الميلاديّ في الإسكندريّة، حيث كرّسَ حياتَه لدراسةِ الرياضيّاتِ والميكانيكا والهندسة، وقدَّمَ العديدَ من الاختراعات، وابتكرَ مجموعةً من الآلاتِ والأدوات، وتكشف الكُتُبُ التي وضعها هذا العالِم أنّه كانَ يعملُ في تدريسِ الفيزياء والميكانيكا والرياضيّات في المتحف، أو في جامعةِ الإسكندريّة ومكتبتها القديمة، وكانَ يستخدِمُ الكُتبَ التي يُؤلّفها (وأغلبها باللغة اليونانيّة) كمناهجَ دراسيّةٍ لطلبته.

محرك هيرون

تحكي وثائق التاريخ أن العالِم السكندري تمكّنَ من اختراعِ أوّل مُحرِّك بخاريّ مسجل، أو أول توربين بخاري في العالَم، إذ نسبت إليه العديد من المصادر الفضل في اختراعه.

يتكون المحرك البخاري من كرةٍ دائريّةٍ معدنية، تُوضَع بطريقةٍ تُتيحُ لها الحركةَ حولَ مِحورها، وتحتوي على الماء، وحين تتعرض الكرة لمصدرٍ للحرارة، يغلي الماء بداخلها، ويتصاعد بخار الماء ليندفع خارجًا من أنبوبتين معقوفتين على سطح الكرة، فتدور الكرة -وفقًا لقوانين نيوتن للحركة- في الاتجاه المعاكس لاندفاع البخار، بما يشبه إلى حدٍّ كبير المحرك النفاث أو محرك الصواريخ.

وأُطلِقَ على هذا المحرك البخاري اسم “الأيوليبيل”، واشتُق الاسم من كلمتين -يونانية “أيوكسوس” ولاتينية “بيلا”، ويمكن ترجمتهما معًا إلى “كرة أيولوس”، وأيولوس هو إله الهواء والرياح اليوناني، وعُرف الجهاز أيضًا “بمحرك هيرون”.

لماذا تأخرت ثورة البخار؟

لم تذكر المصادر استخدامًا عمليًّا للأيوليبيل في العصور القديمة، فلم تكن هناك حاجة ملحَّة إلى استخدام الآلات، فهناك وفرة في القوة العضلية، وتصور لنا اللوحات القديمة عشرات (وربما مئات) الرجال وهم ينقلون تمثال الفرعون، فالمجتمع يستخدم القوة العضلية التي يمكن الحصول عليها من قِبل الحيوانات المستأنسة أو العبيد أو العمال الذين يعملون على مدار الساعة، لم يصادف محرك هيرون البخاري أي تطبيق عملي في الزمن القديم، بل وصفه أحد المصادر بأنه “مجرد تحفة لافتة للنظر لدى الإغريق القدامى”، كما وُصف بأنه “اختراع علمي لاكتشاف الحقيقة الألوهية الكامنة في قوانين السماوات”.

وبعد نحو 1500 عام، تقدم عالِم وكابتن في البحرية الإسبانية بمقترح لاختراع دمج فيه أيوليبيل هيرون السكندري القديم مع التكنولوجيا الحديثة وقتها، والمستخدمة في القوارب الرومانية والمراكب السائرة في العصور الوسطى، وادعى أن جهازه المكون من مغلاة نحاسية وعجلات متحركة على جانبي السفينة بمقدوره أن يدفع السفن الكبيرة في غياب الرياح، لقد سعى هذا الاختراع إلى توليد الحركة للمجداف، وإثبات جدوى البخار ليدفع بالقوارب، ولكن هذا الاقتراح رفضته السلطات الإسبانية!!

ثورات الصناعة ومفاهيم المجتمع

تغيرت الثقافات والمفاهيم الاجتماعية على مر الزمان، وأصبح هناك رفض عالمي للرق والسخرة، ونادت المجتمعات بحقوق للإنسان وقوانين للعمل والعمال، وظهرت كفاءة الآلات وفاعليتها لو أُحسِن توظيفها، فبدأ استخدام الآلات بدلًا من القوة العضلية للرجال، وعملت الثورات الصناعية المستحدَثة على استخدام الميكنة بدلًا من العمل اليدوي.

  • جاءت الثورة الصناعية الأولى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا وأمريكا، وقتها تم تطوير محرك البخار ليعاون العمال ويساعد في إنجاز الأعمال، وصاحب ذلك تغيُّر اجتماعي ملحوظ؛ إذ تحولت المجتمعات الريفية الزراعية -في معظمها- إلى صناعية وحضرية، وأدت صناعات الغزل والنسيج إلى جانب صناعات الحديد وعمليات التصنيع الكيميائي أدوارًا مركزيةً في الثورة الصناعية، فامتدت شبكات السكك الحديدية وسارت القاطرات البخارية، كما ساعدت هذه التطورات على ارتفاع مستوى المعيشة في البلاد التي شهدت التحول الصناعي، ولقد أدت الثورة الصناعية أيضًا إلى ارتفاع غير مسبوق في معدل النمو السكاني، وكان لها أثرٌ بالغٌ على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية سواءٌ في أوروبا أو خارجها، وشهدنا مع قدوم الثورة الصناعية مفاهيم جديدة، فكانت حروب تكنولوجية باردة لجأت إلى التجسس الصناعي، وغزو الأسواق التجارية، واحتكار المعرفة، ودارت حروب الملكية الفكرية التي ما زالت آثارها معنا حتى اليوم.
  • جاءت الثورة الصناعية الثانية بالكهرباء، بين عامي 1870 و1914، فتغيرت الدنيا، إذ تحولت ظلمة الليل إلى ضياء، وشهد العالم التطورات التكنولوجية الرئيسية التي جاءت بها الكهرباء، فكان المصباح الكهربائي والهاتف والفونوغراف ومحرك الاحتراق الداخلي، والأهم من ذلك أن هذه الفترة شهدت تطور خطوط الإنتاج الآلية، ونمو الصناعات القائمة وتوسعة صناعات جديدة، مثل الفولاذ والنفط والكهرباء، وتم استخدام الطاقة الكهربائية للإنتاج الضخم والمكثف، وأدت ميكنة العمل إلى زيادة إنتاج العمال ورفع كفاءة العمليات الصناعية. اعتاد الناس نمط الحياة مع تطورات التكنولوجيا الجديدة، فحين انقطعت الكهرباء عن نيويورك في أمريكا عدة ساعات في سبعينيات القرن الماضي ارتبكت الدنيا وتوقفت الحياة، وأنتجت استوديوهات هوليوود فيلمًا سينمائيًّا يصور كيف ارتبكت حياة الناس وتوقفت من دون الكهرباء، الطريف أن مستشفيات الولادة سجلت زيادةً في أعداد المواليد بعد تسعة أشهر من واقعة انقطاع الكهرباء، فثار السؤال: هل يؤدي بنا الترشيد في استخدام التكنولوجيا إلى عودتنا إلى طبيعتنا الإنسانية الحميمة!!
  • كانت ثالثة الثورات الصناعية هي الثورة الرقمية، التي بدأت في الثمانينيات من القرن الماضي وما زالت مستمرة، وهي تشير إلى تقدم التكنولوجيا المعتمدة على الأجهزة الإلكترونية وتطبيقات التكنولوجيا الرقمية المتاحة اليوم، وشملت التطورات التي حدثت خلال الثورة الصناعية الثالثة استخدام الكمبيوتر الشخصي والإنترنت وتطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتطور الأمر لنشهد إرهاصات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، حولت تلك الثورة الخيال العلمي إلى واقع مَعيش، وأذكر في طفولتي أنني شاهدت فيلم “علي بابا والأربعين حرامي”، وبهرتني عقدة الفيلم المتمثلة في كلمة “افتح يا سمسم” ليستجيب باب المغارة للنداء ويفتح على مصراعيه، وفي شبابي شهدت الخيال وقد تحول إلى حقيقة، فالأبواب تفتح في المتاجر والمنتديات بمجرد الاقتراب منها، ودون حاجة إلى نطق كلمة السر، هكذا تطورت الحياة وباتت أسهل وأسرع، ساعدت الثورة الرقمية أيضًا على التواصل بين الناس وانتقال المعرفة وتبادل المعلومات، فلم تعد المعلومات حكرًا على الحكومات أو الهيئات الإعلامية والأمنية، وتغيرت مفاهيم التواصل بين الحكومات والشعوب، ولم تعد الحكومات وحدها هي القادرة على السيطرة والهيمنة على الأفكار والعقول والقلوب، وجاءت الثورة الرقمية بمفاهيم جديدة، فكان التجسس الإلكتروني واختراق الشبكات بين الأفراد والدول، وصارت قضية الأمن السيبراني همًّا يشغل العقول، وحين تقطعت الشبكات وانقطع التواصل الرقمي بين الناس عدة ساعات في الأسابيع الماضية اختل توازن الكوكب، وبدأ الجميع يبحثون عن وسائل التواصل والأمان والتأمين.
  • جاءت الثورة الصناعية الرابعة في مطلع الألفية الجديدة، لتقوم بدمج التقنيات التي تطمس الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية، فهي هجين من الثورة الرقمية والمواد الجديدة والتكنولوجيا الحيوية، تتميز الثورة الصناعية الرابعة باختراق التكنولوجيا الناشئة؛ فهي تتناول الذكاء الاصطناعي واستخدامات الإنسان الآلي والروبوتات، وهي تشمل علوم المواد الحديثة وتكنولوجيا النانو، كما تضم تطبيقات التكنولوجيا الحيوية والتكامل مع جسم الإنسان، لقد شهدت تلك الثورة الوليدة تطبيقات مبتكرة من الحوسبة الكمومية، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والمركبات ذاتية القيادة، وتداخلت مع أساليب تشخيص الأمراض وطرق العلاج، فغيرت في أنماط الحياة وأشكالها، وحين جاءتنا جائحة بفيروس شرس أصاب الكوكب وأثر سلبًا على أنشطة الحياة الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، ساعدتنا التكنولوجيا الحديثة على الخروج من العزلة والتواصل والتعليم والإنتاج عن بُعد.

وماذا بعد؟

نحن نشهد في عصر الثورة الصناعية الرابعة تحولًا جديدًا؛ إذ يسود نهج التعامل عن بُعد كنمط طبيعي وليس استثنائيًّا، وهو ما يتطلب بنية تكنولوجية هائلة لإدارة الشأن الاقتصادي ومختلِف الأنشطة الاجتماعية والخدمية، وهو ما يجعلنا نتوقع دورًا جديدًا وآلياتٍ حديثةً لإدارة جميع الملفات والمعاملات.

ستتواصل ثورات الصناعة والتكنولوجيا، وسوف تختلف أشكال الحياة في العقود القادمة، ويصعب علينا تخيُّل كيف تكون الحياة في القرن الثاني والعشرين وكيف تكون الثورة الصناعية الخامسة، ولكن يثور السؤال ملحًّا: هل نحن في حاجة إلى مزيد من تطورات العلوم والتكنولوجيا، أم نحن في حاجة إلى ثورة في القيم والأخلاق تعمل على مجابهة الأنانية والجشع والطمع والظلم وحب التسلط التي طرحت من جودة الحياة في أنحاء الكوكب رغم ثورات الصناعة والتكنولوجيا التي عشناها، إنها حلقة في صراع الإنسان الطويل من أجل البقاء وتحسين جودة الحياة سيخوضها الأبناء والأحفاد، ويحاولون جاهدين الإجابة عن السؤال في قادم الأيام!!

المصدر : https://www.scientificamerican.com/

زر الذهاب إلى الأعلى