محاولات تطوير اختباراتٍ للدم تكشف عن السرطان

الخزعات السائلة تُظهر نتائج واعدة فيما يتعلق بالكشف المبكِّر عن الأورام المميتة

دعونا نتخيَّل اختبار دمٍ بسيطًا قادرًا على اكتشاف أغلب أنواع السرطان في مراحلها المبكِّرة الأكثر قابليّةً للشفاء، ظلَّت تلك الفكرة -فكرة “الخزعة السائلة”- حلمًا منشودًا لعلم الأورام على مدى عقود، ومن الناحية النظرية، يمكن للخزعات السائلة أن تكتشف الورمَ قبل فترة معقولة من اكتشافه عينيًّا أو بظهور الأعراض أو بالتصوير الإشعاعي، ومن الممكن أن تُستخدم اختبارات الدم في تلافي حاجة الجرّاحين إلى أخذ عيّنات أنسجة من الكُتَل والآفات المشتبَه في أمرها، وتسهيل اكتشاف السرطانات المختبئة في مواقع لا يمكن للإبر والمباضع الوصول إليها، كما يمكن لهذه الاختبارات أن تُحدد نوع السرطان المتجذِّر وتحديد العلاج الأكثر مناسبةً للقضاء عليه، لا يزال كل هذا هدفًا بعيدًا، لصعوبة اكتشاف مؤشرات مؤكدة للسرطان في عيّنات الدم، إلا أن التقدُّم في هذا المجال في السنوات الأخيرة كان مُبْهِرًا؛ ففي العام الماضي نشرت دوريّة “ساينس” Science أول دراسةٍ استباقيّة كبرى لخزعاتٍ سائلة تتيح اكتشاف الأحماض النوويّة (DNA) والبروتينات التي تنتمي إلى أنواع متعددة من السرطان، وقد أُجريت الدراسة على 10 آلاف سيّدة كبيرة في السن، يتمتعن بصحة جيدة، ومع أن اختبار الدم المسمَّى “كانسرسييك” CancerSEEK، الذي طوَّرته جامعة جونز هوبكنز ورخّصته شركة “ثرايف” Thrive للعلوم التشخيصية، أبعد ما يكون عن الكمال، إلا أنه اكتشف 26 ورمًا خبيثًا لم يتسنَّ اكتشافها بطرق المسح العاديّة مثل تصوير الثدي ومناظير القولون، وفي الوقت الحالي، تُجرى دراسة أكبر نطاقًا، في لندن، على 25 ألف شخص بالغ، كلهم ممن سبق لهم التدخين، باستخدام اختبارٍ للدم طورته شركة ذات اسم جريء هو “جرايل” Grail (ويعني الضالّة المنشودة أو الكأس المقدسة).

لم يصل أي اختبار للدم، قادر على اكتشاف أنواع متعددة من السرطانات، إلى مرحلة الموافقة من قِبَل إدارة الغذاء والدواء الأمريكيّة، إلا أن الإدارة أشارت إلى حماسها للفكرة؛ إذ اعتبرت “كانسرسييك” “أداة ابتكارية تَعِد بالكثير”؛ نظرًا لقدرتها المحتملة على إنقاذ حياة الكثير من المرضى، كذلك فقد وصل إلى ذلك المستوى اختبارات أخرى للدم تستهدف مجالًا أضيق، ومنها اختبار (صممته “بلوستار جينوميكس”Bluestar Genomics ) يستهدف اكتشاف سرطان البنكرياس في الأفراد الأكثر تعرضًا للإصابة به، إلى جانب اختبارات أخرى تبحث عن علامات الانتكاس لدى المرضى الذين سبق علاجهم من السرطان بالفعل، ويشرح نيكولاس بابادوبولوس، أحد علماء جامعة جونز هوبكنز الذين طوروا “كانسرسييك” أن تصنيف الاختبار ضمن قائمة الأدوات الابتكارية “يسرِّع من عمليّات المراجعة العلميّة للاختبار”.

ومن المحتمل كذلك أن تعتمد الخزعات السائلة على مجموعة متنوعة من المؤشرات البيولوجيّة، إضافةً إلى اعتمادها على الحمض النوويّ والبروتينات الخاصّة بالورم، مثل الخلايا السرطانيّة السابحة في الجسم نفسها، وتشرح أنا روبليس -عالِمة بيولوجيا السرطان بالمعهد القوميّ للسرطان- قائلةً: “يُعْتَقَدُ أن هنالك الكثير من عمليِّات التحوّل الحيويّ داخل الورم، وبينما تموت خلايا الورم تنطلق شظاياها خارجةً إلى الدورة الدمويّة”.

تشرح روبليس أن ما يصعِّب عمليّة البحث هو أنه “إذا كان المريض مصابًا بمرحلةٍ مبكِّرة من السرطان أو بأنواع معيَّنة من السرطان فربما لا يكون هنالك الكثير من الحمض النوويّ الذي يلفظه الورم”، وقد لا تكتشفه الاختبارات، أي أن الاختبار المثاليّ يجب أن يكون شديد التخصص (أن يكتشف طفرةً أو إشارةً أخرى لا تشير إلا إلى السرطان فقط)، إضافةً إلى ضرورة أن يكون حساسًا جدًّا حتى يتمكن من اكتشاف أصغر الأورام، ولمواجهة هذا التحدي، يبحث “كانسرسييك” عن طفرات سرطانية على امتداد 16 جينًا وعن ثمانية بروتينات مرتبطة بالسرطان، وتوجد اختبارات فائقة الحساسيّة لهذه السرطانات، وفي دراسة استخدمت نسخةً محدَّثةً من الاختبار، اكتشف الاختبار أكثر من 95 في المئة من أورام المبيض والكبد وحوالي 70% من سرطانات المعدة والبنكرياس والمريء، بينما اكتشف 33% فقط من أورام الثدي و43% فقط من الأورام في مرحلتها الأولى، وسوف يستغرق الأمر المزيد من الدراسات الضخمة المكلِّفة لتثبت الخزعات السائلة الكاشفة لجميع أنواع السرطان كفاءتها في الاكتشاف المبكِّر للسرطان.

الاكتشاف ليس الهدف الوحيد، فالخزعة السائلة في حالتها المثالية ستتمكن أيضًا من تحديد الموقع المحتمل للسرطان حتى يمكن علاجه، يقول أنيربان مايترا، عالِم سرطان البنكرياس بمركز إم دي أندرسون للسرطان في هوستون: “عادةً ما تكون الطفرات مُشتَرَكة بين أنواع مختلفة من السرطان، لهذا فإن اكتشافنا للطفرات في الدم لا يجعلنا نعرف هل تلك الطفرة آتيةٌ من سرطان البنكرياس أم من سرطان الرئة”، ولحل تلك المشكلة أصبحت بعض الخزعات السائلة الأحدث تبحث عن التغيُّرات في التعبير الجينيّ -سواء كانت نشطةً أم معطَّلة- على عكس التغيرات في الجينات نفسها، ويشير مايترا إلى أن هذه التغيُّرات “أكثر تخصصًا في الأعضاء”.

وفي الأفق القريب تظهر خزعات سائلة لمساعدة المصابين الذين تم تشخيصهم بالسرطان بالفعل.

في العام الماضي أصدرت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية موافقتها على اختبارين من هذا النوع، يبحثان عن الحمض النوويّ للورم؛ حتى يتمكَّن الأطباء من اختيار عقاقير تستهدف الطفرات، كما يعمل العلماء على تطوير اختبارات للدم تكتشف العلامات الأولى من انتكاس السرطانات لدى المرضى الذين أتمّوا العلاج، يقول بابادوبولوس إن هذا العمل لاكتشاف “الأمراض ذات الحد الأدنى من البقايا” يتقدم سريعًا، ويتساءل قائلًا: “السؤال هو: هل بإمكان هذا العمل إنقاذ حياة المرضى؟”.

ذلك هو السؤال الذي يجب على شركاتٍ مثل “ثرايف” و”جرايل” الإجابة عنه فيما يتعلق بتطويرها اختبارات المسح واسعة المجال التي تعمل عليها حاليًّا، يقول مايترا: “على هذه الشركات أن تثبت أن أدواتها قادرة على اكتشاف السرطان في مراحله المبكرة، والأهم أن تثبت أن الاكتشاف المبكِّر له أثره على نجاة المرضى من السرطان، ذلك تحديدًا هو ما نأمل تحقيقه”.

المصدر : https://www.scientificamerican

 

زر الذهاب إلى الأعلى