مواد نانومترية عالية الكفاءة تُخلصنا من ملوِّثات المياه
غيرت الثورة الصناعية حياة البشر وطورتها في نواحٍ عدة، ولكن على الجانب الآخر كان لتلك الثورة آثارٌ سلبية على البيئة من جرَّاء الانبعاثات والملوِّثات الناتجة عن الصناعات المختلفة! كل عام يموت ما بين 6 إلى 8 ملايين شخص حول العالم نتيجة أمراض تسبِّبها المياه المُلوثة بالميكروبات، مثل الإسهال وحمى التيفوئيد والتهاب الكبد الوبائي ألف (Hepatitis A).
في الآونة الأخيرة بدأت الميكروبات تُظهر مقاومةً تجاه جميع المضادات الحيوية المعروفة حاليًّا، ما يمثل خطرًا حقيقيًّا على الإنسان والحياة البحرية، أصبحت عملية معالجة المياه وإدارة الملوِّثات البيئية والتخلُّص منها تحديًا عالميًّا يتطلب انتباه الباحثين من تخصصات مختلفة.
وفقًا لدراسة حديثة -نشرتها دورية “نانوسكيل” المختصة بعلوم وتكنولوجيا النانو- تمكن فريق بحثي يضم باحثين مصريين ويابانيين من تطوير سبيكة مكونة من مواد نانومترية (متناهية الصغر) تتمتع بكفاءة عالية في معالجة المياه والتخلص من الملوثات العضوية وغير العضوية والمعادن الثقيلة، كما أثبتت نتائج الدراسة قدرة السبيكة النانومترية المطوّرة في القضاء على معظم الكائنات الدقيقة الملوِّثة للمياه بكفاءة تفوق تأثير المضادات الميكروبية التقليدية، والتي تُستخدم ضد الأمراض البكتيرية والفطرية والفيروسية.
تُعَدُّ هذه الدراسة واحدةً من سلسلة دراسات نتجت عن مشروع بحثي بدأ في عام 2015 بهدف تطوير مواد نانومترية لمعالجة المياه باستخدام عملية التحفيز الضوئي، يقول محمد عبد القدوس، الباحث الرئيسي في الدراسة، وباحث الدكتوراة بجامعة تويوهاشي للتكنولوجيا في اليابان: “هذه الدراسة هي نتاج خبرة وعمل استمر خمس سنوات من أجل تحسين كفاءة المواد النانومترية وخفض تكلفتها وتطويرها بشكل يسمح بإعادة تدويرها”.
التحفيز الضوئي
في عام 1972 اكتشف العالِمان اليابانيان فوجيشيما وهوندا التحفيز الضوئي من خلال رصد الانقسام التحفيزي لجزيئات المياه على أقطاب إحدى المواد شبه الموصلة، وهي ثاني أكسيد التيتانيوم، فكانت بذلك أول المحفزات الضوئية التي يتم اكتشافها، يمثل هذا الحدث بداية حقبة جديدة في التحفيز الضوئي، ومنذ ذلك الحين بدأ العلماء في إجراء العديد من الأبحاث لتطوير مواد محفزة ضوئية مختلفة. للمشاهدة فيديو مُقترح: العالِم الياباني فوجيشيما يشرح تقنية التحفيز الضوئي.
على الرغم من وجود العديد من تقنيات معالجة المياه، إلا أن لها العديد من العيوب، فهي إما معقدة أو تستغرق وقتًا طويلًا أو تكلفتها باهظة، لذا حظي التحفيز الضوئي باهتمامٍ كبيرٍ من قِبل الباحثين، نظرًا لخصائصه المتميزة، التي تشمل التحويل المباشر للطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية عبر سلسلة من تفاعلات الأكسدة والاختزال التي تحدث على سطح المحفز الضوئي، عند سقوط الضوء على السبيكة النانومترية التي طورها الباحثون، تبدأ سلسلة من تفاعُلات الأكسدة والاختزال التي ينتج عنها تكوُّن الجذور الحرة (free radicals) ومركبات الأكسجين التفاعلية (Reactive oxygen species)، التي تتفاعل مع الملوثات وتحلِّلها، كما تتسبب في عمل ثقوب في الغلاف الخلوي للميكروبات، وتبدأ المادة الخلوية في التسرُّب إلى خارج الخلية فتموت الخلية.
يقول “عبد القدوس” في تصريحات لـ”للعلم”: “تحقَّقنا من آلية تدمير الخلايا البكتيرية عن طريق الميكروسكوب الإلكتروني الماسح؛ فقد زرعنا الخلايا البكتيرية في وسط يحتوي على المواد النانومترية التي حضرناها، بفحص تلك الخلايا لاحقًا تحت الميكروسكوب، اكتشفنا فتحات في الغشاء الخلوي للخلايا سمحت بتسرب السائل الخلوي، ما يعني موت تلك الخلايا”.
بعض المركبات الخطرة التي تلوث المياه والتربة والبيئة تُعَدُّ شديدة السُّمِّيَّة، ويمكن أن تسبب مشكلاتٍ صحيةً خطيرة، تشمل هذه الملوِّثات برمنجنات البوتاسيوم -وهي صبغة غير عضوية تُستخدم في العديد من التطبيقات- وأيونات الكروم والمركبات النيترو أروماتية -مثل pNA -، مثل هذه الملوِّثات يُلحق الضرر بالكائنات المائية، وقد يؤدي إلى تلوث البيئة على المدى الطويل.
يقول جمعة سند، أستاذ الكيمياء المساعد بجامعة الأزهر -لم يشارك في الدراسة- في حديثه مع “للعلم”: “استخدم الباحثون مادةً نانويةً مؤلفةً من عدة مركبات مثل كوبالت-نيكل فرّيت ومُطعمة بالنحاس، حضر الباحثون المواد ودرسوا خواصها بعدة طرق أهمها الميكروسكوب الإلكتروني النافذ الذي أوضح تكوُّن حبيبات كروية الشكل تتراوح بين 9 نانومترات و70 نانومترًا، ثم استخدموا هذه المواد كعوامل حفازة لتنشيط ثلاثة تفاعلات كيميائية وهي تكسير برمنجنات البوتاسيوم واختزال الكروم السداسي وتكسير الصبغات العضوية، أفادت نتائج الدراسة بقدرة المواد المحضرة على تنشيط التفاعلات سالفة الذكر، كما أكد الباحثون نتائجهم من خلال محاكاة حاسوبية”.
مشكلة وجهود
في عام 2013 أظهرت أكاديمية البحث العلمي وصندوق دعم العلوم والتكنولوجيا التابع لوزارة البحث العلمي اهتمامًا كبيرًا بتمويل الأبحاث المتعلقة بالتحديات القومية مثل مشكلة معالجة المياه، في ذلك الوقت كان مشروع “سد النهضة” الإثيوبي قد بدأ بالفعل، وتسبب في حدوث زخم كبير في المجتمع المصري، مما وضع مشكلة المياه على رأس أولويات الحكومة المصرية، شجعت الحكومة الباحثين وقدمت لهم مبالغ كبيرة لدعم مشروعاتهم، من أجل تطوير تقنيات يمكن استخدامها في معالجة المياه وإعادة تدويرها والحفاظ عليها.
انضم “عبد القدوس” إلى أحد هذه المشروعات في عام 2015، ويقول: “نشرنا من خلال هذا المشروع مجموعةً كبيرةً من الأبحاث، في البداية بدأنا بتطوير مادة نانومترية من فئة المحفزات الضوئية، ثم اختبرنا كفاءة هذه المادة على الملوثات المختلفة الموجودة في المياه، العضوية وغير العضوية والمعادن الثقيلة، ودرسنا كفاءة المادة التي طورناها وتأثيرها على كل نوعٍ من الملوثات، ثم شرعنا في تطوير المادة مجددًا وفقًا للنتائج التي توصلنا إليها”.
نشر الباحثون أربعة أبحاث حتى الآن، في كل بحث يحاولون تطوير السبيكة النانومترية بشكل أفضل، إما لزيادة الكفاءة، أو لجعلها قابلةً لإعادة التدوير، أو لاستخدام بدائل رخيصة للمواد الأولية باهظة الثمن.
في البداية كانت السبيكة النانومترية غير قابلة للتدوير، في أحد الأبحاث -المنشور في دورية “ساينتفك ريبورتس” التابعة لدوريات نيتشر- أراد الباحثون تقليل تكلفة العملية من خلال منح المادة خاصية إعادة التدوير عن طريق استخدام مادة مغناطيسية في مركز السبيكة النانومترية، بحيث يَسهُل جمع المادة من الأحواض التي يحدث فيها التفاعل باستخدام مغناطيس خارجي، بعد ذلك يغسل الباحثون السبيكة ويجففونها من أجل إعادة استخدامها مرةً أخرى.
يقول محمد جار العلم، الأستاذ المساعد في قسم الهندسة الكيميائية في جامعة بوليتكنك مونتريال: “تُعَدُّ طريقة التحفيز الضوئي إحدى الطرق الواعدة التي يمكنها القضاء على الكائنات الحية الدقيقة، يعيب هذه الطريقة أن المحفزات التقليدية تنشط فقط تحت ضوء الأشعة فوق البنفسجية، ولذلك يصعب الاستفادة من ضوء الشمس الطبيعي بالإضافة إلى صعوبة استخلاص المحفزات بعد انتهاء عملية المعالجة، في هذه الدراسة استحدث الباحثون مادةً نانومتريةً ذات مساحة سطح عالية وتحميلها بمادة ذات طبيعة مغناطيسية لتسهيل استخلاصها باستخدام مغناطيسات تقليدية”.
نشر الباحثون بحثًا آخر في دورية “ماتيريالز ليترز”، يتناول كيف يمكننا جعل المادة النانومترية نشطةً تحت الضوء المرئي، يقول “عبد القدوس”: “ضوء الشمس هو طيفٌ يتكون من أشعة تحت حمراء وأشعة فوق بنفسجية، وهناك الضوء المرئي، الذي يمثل حوالي 45% من طيف الشمس، وهو أكبر جزء مكوِّن للطيف الشمسي، أغلب المحفزات الضوئية التي تُستخدم في معالجة المياه تكون نشطةً تحت الأشعة فوق البنفسجية التي تمثل 5% فقط من الطيف الشمسي، فكرنا أن نجعل المادة الخاصة بنا نشطةً تحت الضوء المرئي، وبالتالي تمتص 45% من الطيف الشمسي”.
كان الباحثون يستخدمون العناصر النبيلة مثل الذهب والفضة والبلاتين، وهي مواد تتمتع بكفاءة عالية ولكنها غالية الثمن، يقول “عبد القدوس”: “في بحث آخر حاولنا زيادة كفاءة المحفز الضوئي باستخدام مواد رخيصة مثل الكربون والحديد والكوبالت والنيكل”.
توصَّل الباحثون -في بحثهم الأخير المنشور في دورية “نانوسكيل”- إلى أن استخدام النحاس مع ثاني أكسيد التيتانيوم بدلًا من الذهب والفضة والبلاتين يجعل السبيكة نشطةً تحت الأشعة فوق البنفسجية وكذلك تحت الضوء المرئي، يقول وليد الروبي، أستاذ علوم المواد وتكنولوجيا النانو المساعد بكلية الدراسات العليا للعلوم المتقدمة بجامعة بني سويف، غير مشارك في الدراسة: “استطاع الباحثون تطوير سبيكة نانومترية تستخدم جزيئات النحاس رخيصة الثمن في زيادة كفاءة ثاني أكسيد التيتانيوم في تكسير ثلاثة أنواع من الملوِّثات الموجودة في المياه، كما أظهرت النتائج نشاطًا واعدًا في قتل الميكروبات البكتيرية والفطرية التي تسبب العديد من المشكلات الصحية للإنسان بسبب مياه الشرب الملوثة بها”.
تطبيق واعد
تسبب الميكروبات المُمْرِضة الملوِّثة للمياه مثل البكتيريا والفطريات العديد من الأمراض المنقولة عن طريق المياه، مثل التيفوئيد والكوليرا والتهاب الكبد الوبائي أ و ج، أشار “سند” إلى الأهمية الطبية والحيوية للدراسة وقال: “درس الباحثون التأثير الحيوي للمواد النانومترية التي حضروها على الكائنات الدقيقة المسببة للتيفوئيد والإسهال والالتهاب الكبدي، وأظهرت النتائج أن لهذه المواد تأثيرًا مضادًّا للكائنات المسببة لتلك الأمراض”.
يقول “عبد القدوس”: “المادة التي طورناها أظهرت كفاءةً عاليةً ضد كل ملوثات المياه، وكذلك ضد كل الميكروبات التي تم استخدامها في التجارب، تلك الكفاءة كانت أعلى من تأثير مضادات الميكروبات التقليدية، هذا يأخذنا لتطبيقٍ آخر واعد جدًّا، إذ إننا نواجه حاليًّا أزمة ظهور سلالات من البكتيريا مضادة لكل أنواع المضادات الحيوية، أصبح أي مضاد حيوي نعطيه للمريض لا يعطي أي نتيجة، وبالتالي يموت المريض”.
يضيف “عبد القدوس”: “هذه الدراسة تفيد أن بإمكاننا استخدام المادة النانومترية كبديل للمضادات الحيوية التقليدية، يحتاج الأمر إلى الكثير من الدراسات لتطوير مثل هذه الأدوية”.
يقول “جار العلم”: “تمثل عملية تطهير المياه (القضاء على البكتيريا والطحالب) تحديًا في تفادي تكوُّن المركبات الجانبية مثل الهالوميثان -الذي ينتج عن تفاعل الكلور مع المواد العضوية- لذلك هناك حاجة ماسة إلى تطوير تقنيات تقلل من استخدام الكلور في عمليات التطهير إلى جانب الحد من تركيزات المواد العضوية، أثبتت المادة النانومترية التي طورها الباحثون كفاءةً عاليةً في تثبيط البكتيريا والقضاء على بعض الملوثات العضوية، مما جعلها تبدو بديلًا واعدًا لعمليات معالجة المياه التقليدية، كما أن طريقة التحضير المستخدمة طريقة بسيطة ولا تستهلك طاقةً كبيرةً ويمكن دراسة تحضيرها على نطاقات أوسع، تميزت الدراسة أيضًا بعمل تحليلات متكاملة للمواد بغرض بيان خصائصها وتأكيد تطابق مكوناتها مع التكوين المستهدف”.
أوضح “عبد القدوس” أنه يخطط لتطوير تكوين المحفز الضوئي وإنتاجه على نطاق واسع، وكذلك استهداف ملوثات جديدة، وأضاف: “ينصبُّ اهتمامي حاليًّا على المعادن الثقيلة، مثل الكروم والكادميوم واليورانيوم، وهي من ملوِّثات المياه شديدة السُّمِّيَّة!”.
المصدر : https://www.scientificamerican.com/